ثانيا:
أنا أوافق الأستاذ الكبير جبرا إبراهيم جبرا على مسألة «الرؤية»؛ فالرؤية الروائية لا تختلف عن الرؤية القصصية القصيرة إلا إذا اختلف الإنسان الطويل عن الإنسان القصير، كلاهما إنسان؛ ولهذا فأنا أضحك عندما يقال: هذا كاتب روائي، وهذا كاتب أقصوصة، كلاهما كاتب روائي وكاتب أقصوصة، كأن في هذا نوعا من التعريف مع أنه في رأيي نوع من اللاتعريف، المهم في الموضوع كله هو «الرؤية»، سواء كان الشكل الفني هو القصة القصيرة أو الرواية، وعلى كل حال فإن القصة، بنوعيها، قد انفصلت تماما في عصرنا الحديث عن جدتها وأمها؛ أعني عن الملحمة والحدوتة، صارت نوعا آخر جديدا له وظيفة أرقى بكثير من «طريق الندامة»، و«سكة السلامة»، والموعظة الحسنة، لكن هذا موضوع يطول شرحه، هو في حاجة إلى بحث؛ ربما كتاب.
ماهية القصة
قلت مرة إن القصة فن دقيق جدا وخطير جدا، ومتقدم جدا حتى على العقلية السائدة في العالم اليوم، والبشرية حتى الآن لم تكتشف «ماهية» القصة!
هل نطمع في شيء من التوضيح؟
نظر قليلا إلى سفينة بعيدة بدت لنا تصعد وتهبط في خط الأفق قبل أن يقول: الفن باعتباره نوعا من التكوين البيولوجي للإنسان، لم يكتشف دوره تماما بعد، وأعتقد أنه لن يكتشف إلا إذا اكتشفت كل أسرار الحياة.
ولنتأمل الحقيقة البسيطة التي تقول إن النبات يحزن ويفرح ويستجيب للموسيقى وللحنان، ما دام هذا يحدث لأبسط أشكال الحياة؛ للنبات، فكيف الحال بالإنسان؟! ألا تعتقد أن الفن يتخذ أبعادا أعمق ملايين المرات عند ذلك المخلوق الذي هو أرقى ما وصل إليه تطور الكائنات؟!
القصة، بالنسبة للفن، هي سلم التطور كله، هي تقريبا، أول فن يستجيب له الطفل، ثم تظل معه في رحلة الحياة يستجيب لها في كل مراحل عمره، حتى وهو في قمة نضجه.
هذا النوع من الفن الذي يعمل على كافة هذه المستويات، لا بد طبعا أن يتضمن كافة الفنون الأخرى؛ اللغة، والموسيقى، وإيقاع الحياة، وتوهج الخيال، وتغيير المكونات الداخلية الدقيقة في الإنسان، جمالية كانت أو فكرية.
القصة تحتل - في الفن - المقامات الموسيقية السبعة؛ ومن هنا فهي فن دقيق وخطير لم تكتشفه البشرية بعد.
अज्ञात पृष्ठ