لا أعيش قرير العين رائق البال، أنام نوم مستريح الضمير، فالواقع أني لا أنام إلا لماما.
ليس لأني قلق البال ولا مؤرق الضمير، والحمد لله.
ولكن لأن نفق أكتوبر تحت رأسي مباشرة!
منذ ثلاثة أشهر والدق شغال طوال الأربع والعشرين ساعة وبمختلف أنواع الدرجات والنغمات، فهناك دق متتال كطلقات المترليوز، يقوم به حفار الأسفلت الصغير ذو الضجيج العالي، وهناك دق المدفعية الثقيلة من غارسات الخوازيق الخرسانية، ودق المطارق والمعاول، وأكوام الرمل والزلط، وهي تنحدر في شلالات، ضجة تعمي العيون والآذان، ناهيك عن ضجيج الأوامر وصخب العمال والأنوار الملتهبة الضوء التي تخترق الشيش وتخرق الستائر وتفتح بالقوة أجفان العيون.
الحقيقة كانت الضجة في أول قدومها مفاجأة أقلقت مضاجع بضع مئات من سكان شارع النيل الذين شاء لهم الحظ أن يجاوروا ويطلوا على النفق المزمع إقامته.
كانت من المفاجأة والصخب، بحيث كنا لا ننام ليلا أو نهارا، وكأننا في حرب ذات غارات متصلة، وما دامت حربا فلتكن الهجرة، وهاجرنا إلى الإسكندرية، وصحيح أن شارعنا هناك لم يكن به نفق ولا حرب، فقد كان دائم الضجة، ضجة غير معلومة المصدر، ومن الصباح إلى الصباح وكأنها ضجة الجان الذي يقولون إنه يسكن أرض المعمورة.
ثم عدنا أخيرا متمنين أن تكون الأعمال الإنشائية الثقيلة في النفق قد انتهت، ولكن لا شيء كان قد تغير، اللهم إلا اختلاف النغمات وبروز بضع آلات جديدة في أوركسترا الضجة اللاهارموني.
وكنت منذ بدأ العمل قد أغلقت جميع النوافذ والمنافذ التي تطل على موقع العمل دون فائدة، فكل شيء كان يصل واضحا تماما وكأن الحفر في الشقة.
وأول ليلة بعد العودة حاولت النوم بلا أي اعتبار للضجة، فقد أصبحت الضجة ملازمة لصحونا ومنامنا بطريقة لا أعرف ماذا يحدث لنا ولنومنا إن - فجأة - سكتت الضجات كلها.
إلى الساعة الثالثة صباحا لم أستطع النوم، وما دام لا فائدة من النوم فلتكن اليقظة ولتكن القراءة، ولكن الضجة أوقفت عمل خلايا الاستيعاب هي الأخرى فأغلقت الكتاب، وقمت أتجول في الشقة شبه المظلمة التي تبدو متوهجة الضوء من فرط ما يصلها من ضجيج نهاري الطبيعة جحيمي الوقع.
अज्ञात पृष्ठ