فمتى يحدث هذا؟!
بالله عليكم، وأرجوكم؛ متى؟!
وهوى النجم
أبلغ «مقالة» رثاء قرأتها عن حسن فؤاد كانت رسما كاريكاتوريا لرسام شاب من تلامذة حسن فؤاد في زميلتنا «صباح الخير»، كانت صورة لحسن فؤاد واقفا عاليا، وكأنما ينظر من الملأ الأعلى وعلى فمه ابتسامته الغريبة تلك الساخرة الراقية المشاركة المتفائلة التي تحمل أقل القليل من المرارة، كان حسن فؤاد ينظر من عليائه ويقول لزملائه وأصدقائه وتلامذته وأبنائه الذين أقاموا له أروع جنازة على صفحات العدد الخاص من «صباح الخير»، ويقول ردا على البكاء والنحيب: «جرى إيه يا جماعة؟! مانا لسه معاكم آهه!» الحق أني حين قرأت في الإسكندرية خبر وفاته أصبت بما يشبه «التولة»، وفقط حين قرأت العدد ووصلت إلى هذا الرسم، بكيت؛ فحسن فؤاد صديق العمر، عرفته وأنا طالب طب وقد كان خريجا حديثا من الفنون، وذات يوم جاءني صديقاي محمد يسري أحمد وصلاح حافظ وقالا لي: «سنقابل اليوم فنانا عبقريا.» وإلى غرفة على «سطوح» بيت في المنيرة ذهبنا، وهناك وجدت شابا تحس للوهلة الأولى أنه أكبر من سنه وأكبر منا جميعا، لاهث الأنفاس، فقد كان يعاني من نوبات ربو حادة تنتابه، شامخ الأنف دائما، وكأنما ليلتقط أعلى طبقات هواء الحجرة، وكان يتحدث، وتحدث، وخرج كلامه غريبا على سمعي، أنا الذي كنت لا أزال أتهجى أحرف الفن الأولى والأدب، كلام غريب، رؤية جديدة تماما لفن جديد وعالم جديد! ببساطة شديدة يتحدث، وببساطة أشد يقلب كل مفهوماتنا الرومانسية عن الفن والناس رأسا على عقب! وخرجنا من عنده بعد الفجر، ومنذ ليلتها بدأت علاقة من أخصب وأغنى وأروع ما مر بحياتي من علاقاتي؛ ذلك أن حسن فؤاد لم يكن فنانا من ذلك النوع الذي ينكب على أعمال فنية محضة يزاولها، كأن يرسم أو ينحت أو يكتب، إنه كان أولا وأساسا صانع فنانين، كان المصانع التي تنتج المصانع؛ ولهذا فإن من «خلقهم» حسن من الفنانين، ومن «طورهم»، ومن فتح أمامهم أبواب مفهومات جديدة للفن وللحياة، هؤلاء يشكلون العصب الرئيس للحركة الفنية والأدبية المصرية الحالية، والتي قامت منذ الخمسينيات، ولا تزال تقوم بدورها الرائد إلى الآن.
طوال الأيام التي مضت منذ اختفائه المفاجئ وصورة حسن فؤاد بشكله المتميز وبذكائه الخلاق لا تفارقني، في صحوي أو منامي، وكأن غيابه قد جعله أكثر حضورا، وأنصع ضوءا، وأقلب في الصحافة المصرية، فأجد نوره يشع في كل مجالاتها وعلى لسان أقلام من اتجاهاتها كافة؛ ذلك أن «حسن» على كثرة من عرف، لم يعاد أبدا حتى أشد معارضيه في الرأي أو الاتجاه، كان أكبر من أن يكره، فقد كان يؤمن أن المخالفين في الرأي ليسوا شياطين أو حقراء، ولكنهم بشر ومفهومات، ممكن بتغيير مفهوماتهم أن يتغيروا، بل حتى أن يتخلوا عن عيوبهم أو يكفروا عن جرائمهم، لم يكن يكره أبدا، حتى أعداءه، غاب عنا حسن إذن، غاب الجسد الإنساني السمح الفنان الخلاق، ولكنه فعلا، وكما قال الرسم، لا يزال موجودا فينا كلنا، حتى في جيلنا كله والأجيال التي تلته، ربما - دون أن يعرفوا - هو موجود فيهم، وسحره باق لأن الفنانين الذين خلقهم ووجههم باقون يتوارثون رؤاه يبكونه، ولكن الأعظم والأجل أن يستوحوا فنه وشخصه وخصاله وأفكاره، خاصة وقد تحول من بشر على الأرض إلى نجم في السماء هوى إلى أعلى، وأصبح ضوءه أشد وأخلد وأقوى!
وداعا حسن!
وإلى أن نلقاك!
جولة في عقول القراء
جولة خطيرة وأنا ما زلت لم أنته بعد من قراءة كل الخطابات رغم انتهائي من مئات كثيرة منها، جولة خطيرة داخل العقل المصري، وفي أحيان كثيرة العربي، وجدتني غارقا فيها، جاءت الخطابات ردا على محاورتي التي بدأتها مع الأستاذ خالد محمد خالد حول مفهومه الأخير عن الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، والتي أجابني عنها، وتدخل الدكتور فرج فودة مشكورا، ثم أخيرا الأستاذ الكبير الدكتور فؤاد زكريا، وها هو الأهرام يعقد أكثر من ندوة تضم نخبة ممتازة من علماء المسلمين ومفكريهم وأخيارهم.
جولة خطيرة؛ لأنني لأول مرة أتلقى هذا العدد الرهيب من الخطابات حول موضوع واحد وتجيئني خطابات من مختلف قطاعات الشعب؛ بدءا من كبار رجال القضاء والسياسيين والقادة، إلى تلامذة المدارس الثانوية، وحتى الإعدادية، إلى العمال والحرفيين وبعض الفلاحين والمزارعين، وكم كان بودي - ولا يزال هذا قصدي - أن أهدي تلك الرسائل إلى قادة الأحزاب السياسية، وبالذات إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام والجامعات؛ لأنها بمثابة كشف بالأشعة على الوجدان والعقل المصريين وأخذ فكرة مهمة عن محتوياته ومكوناته؛ تلك التي لا يتاح لنا رؤيتها في معظم الأحيان، ولندع الموضوع جانبا فسنأتي له حالا، ونتعرف أولا على شكل تلك الخطابات، فقد لاحظت ارتقاء غريبا في أسلوب الحوار، سواء معي أو ضدي، ومنطقا هادئا في أحيان، مشتعل الجذوة في أحيان أخرى، ولكن دائما هناك «منطق» ما وأساس حوار، وهذا شيء مفرح حقا، فقد كانت المعارضة للرأي تتخذ شكل السباب والاتهامات في معظم الأحيان، أما هذه المرة فشيء غريب ألا أجد خطاب سباب واحدا، ليس هذا فقط، بل إن الجميع، حتى من يعارضون، يفترضون حسن النية في الكاتب وصدقه في الإيمان بما يقول، وأقصى تأنيب يرد هو دعوة الله، سبحانه، «لهدايته».
अज्ञात पृष्ठ