فردت قائلة: وهذا هو الشيء الذي يجتذب العقول الممتازة بطبيعتها وإن لم تبلغ بعد كمال الفضيلة؛ أعني الرغبة في المجد؛ أن يكون المرء شهيرا بما حققه للدولة من أنبل الخدمات، ولكن تأمل كم هي هزيلة لا وزن لها مثل هذه الشهرة في حقيقة الأمر. فأنت تعرف جيدا من تعاليم الفلكيين أن محيط الأرض هو نقطة ضئيلة بالقياس إلى امتداد السموات، بحيث يجوز القول إنها لا حجم لها على الإطلاق بالمقارنة بحجم الكون، ومن هذا الجزء الضئيل من الكون، كما تعلمت من براهين بطليموس، فإن الربع فقط هو المأهول بالكائنات الحية المعروفة لنا، فإذا طرحت من هذا الربع تلك المساحات التي يغطيها البحر والمستنقعات، والمساحات الشاسعة التي تشغلها الصحارى المقفرة، لما بقي للإنسان إلا أقل القليل. ها هي النقطة الضئيلة داخل نقطة ضئيلة، معزولة مسيجة، التي تريد أن تنشر فيها مجدك وتذيع شهرتك، فأي حجم أو قيمة لمجد متقلص داخل هذه الحدود الضيقة الكتيمة؟!
1
وتذكر أيضا أن هذا الحيز الصغير الذي نعيش فيه تسكنه شعوب كثيرة مختلفة اللغات والعادات وكل طرائق العيش، ومع صعوبة الترحال واختلاف اللسان وندرة التجارة فإن شهرة المدن الكبرى، ناهيك بالأفراد، لا تصل إليهم. يذكر شيشرون في موضع ما من كتبه أن شهرة روما في زمنه لم تتجاوز جبال القوقاز، رغم أن الإمبراطورية كانت عندئذ مكتملة النمو ومرهوبة الجانب لدى الفرس والشعوب الأخرى في تلك المنطقة.
أرأيت كم هى ضيقة منكمشة تلك الشهرة التي تجهد إلى أن تبسطها وتذيعها؟ وهل يمكن لروماني أن تصل شهرته إلى أصقاع لم تصل إليها روما؟
ثم أليست القيم والتقاليد تختلف من شعب إلى شعب اختلافا بعيدا، بحيث إن ما يعد مجيدا عند بعضها قد يكون مشينا يستوجب العقاب عند بعضها الآخر؟ قد يسر المرء أن تذيع شهرته بين شعبه، غير أن شهرته عندئذ لن تكون في صالحه لدى شعوب كثيرة! فليقنع إذن بشهرته بين شعبه، ولتنكمش شهرته الخالدة البراقة داخل حدود أمة واحدة.
وكم من رجل أصاب شهرة في زمنه ثم انطفأت شهرته لغياب المؤرخين المنوهين بذكره، على أن التواريخ نفسها لا جدوى فيها إذا ما فقدت مع كتابها وطواها الزمن الذي يطوي كل شيء ويسدل عليه ستائر النسيان.
لعلك تظن حين تتصور شهرتك في مقبل العصور أنك تؤمن لنفسك ضربا من الخلود، ولكن إذا ما تأملت الامتداد اللانهائي للأبدية فمن أين يأتيك الفرح بامتداد شهرتك عبر الزمن؟ إن لك أن تقارن أمد الثانية الواحدة بأمد عشرة آلاف من السنين! فمهما تكن ضآلة الثانية فإن لها قيمة في المقارنة لأن كلتيهما قدر متناه من الزمن. غير أن العشرة الآلاف أو أي مضاعفات لها من السنين مهما عظمت لا يمكن أن تقارن بالأبدية، فإذا كانت المتناهيات تقبل المقارنة إحداها بالأخرى، فإن المتناهي واللامتناهي لا تمكن مقارنتهما على الإطلاق؛ ومن ثم فمهما امتد عمر شهرتك فإنه حين تقارنه بالأبدية يتبين أنه ليس ضئيلا فحسب بل لا شيء على الإطلاق.
إنكم لا تعرفون أن تفعلوا ما هو حسن إلا وأعينكم على رأي الناس ومن أجل السمعة الفارغة، هكذا تغفلون سلطان الضمير وامتياز الفضيلة، وتلتمسون ثوابكم في القيل والقال. أصغ إلي إذ أحكي لك حكاية الرجل الذي عرف كيف يسخر من سطحية هذا اللون من الغرور. يحكى أنه سمع أن رجلا سمى نفسه فيلسوفا عن ولع بالشهرة لا عن رغبة في ممارسة الفضيلة، فقال لنفسه: سأجرب معه السب والإهانة فإذا احتملهما بثبات ورباطة جأش فهو فيلسوف، ثم راغ عليه سبا وإهانة، فتصنع الرجل الصبر والثبات واحتمل الإهانات فترة، ثم قال في سخرية: «هل رأيت أخيرا أني فيلسوف؟» فرد عليه الأول لاذعا: «لو أنك سكت لرأيت ذلك حقا.»
غير أن من يعنينا الآن هم عظماء الرجال، وأنا أتساءل: لماذا يسعون إلى المجد والشهرة رغم التماسهما من خلال الفضيلة؟ ماذا يهمهم من أمر السمعة عندما ينتهي الجسد إلى الموت الذي هو نهاية كل شيء؟ فإذا كان الفناء مقدرا على الإنسان كله جسدا وروحا - وهو ما ينهانا عقلنا عن اعتقاده - فالشهرة لا شيء ما دام الإنسان الذي يقال إنه حازها لم يعد موجودا، أما إذا كانت الروح تبقى واعية بعد أن تتحرر من سجنها الأرضي وتهفو إلى السماء، فلسوف تزدري كل شأن أرضي، مبتهجة بالسماء سعيدة بانعتاقها من هذا العالم.
أيها الجامح في أفكاره لا يلوي على غير الشهرة،
अज्ञात पृष्ठ