مسار القدر يحرك السماء والنجوم، ويحكم العلاقة بين العناصر، ويحولها من خلال التنويعات المتبادلة، ويجدد جميع الأشياء التي تولد وتموت بما يشبه تعاقب الثمرة والبذرة، ويضبط أيضا أفعال الناس ومصائرهم بسلسلة الأسباب التي لا فكاك منها، وحيث إن هذه الأسباب تستمد أصلها من العناية الثابتة فهي أيضا ثابتة لا تتغير؛ ذلك أن العالم يدار على أفضل نحو إذا ما قدمت البساطة الكامنة في العقل الإلهي نظاما ثابتا للأسباب لكي يحكم بسنة لا مبدل لها: كل شيء خاضع للتغير وحقيق إذا ترك لشأنه أن يتقلب ويخبط خبط عشواء.
ولأنكم معشر البشر لستم في موقع يتيح لكم تأمل هذا النظام يبدو لكم كل شيء مضطربا في فوضى، ولكن الحق أن كل شيء يأخذ موضعه الذي يضبطه ويتجه به صوب الخير، لا شيء يمكن أن يحدث بسبب الشر أو بسبب الأشرار أنفسهم، وهم كما أسهبنا في التبيان إنما يحيدون عن التماس الخير بالخطأ والحمق، بينما النظام الذي يصدر عن الخير الأسمى في مركز العالم لا يمكن أن يحيد بأي شيء منذ البداية.
لعلك تعترض بقولك إنه ليس ثمة ما هو أسوأ اضطرابا من أن مصائر أخيار الناس وأشرارهم ما تفتأ تتقلب بين العسر واليسر، وسوف أسألك ما إذا كان للناس دائما ذلك العقل الصائب الذي يخولهم عصمة من الخطأ في حكمهم عمن هو صالح ومن هو طالح، كلا، إن أحكام البشر لتتضارب في هذا الشأن بحيث إن من يحكم عليهم البعض بأنهم أهل للمثوبة يراهم الآخرون أهلا للعقوبة.
ولكن لنفترض أن شخصا ما لديه القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، فهل بمكنته أن يعرف خفايا الشعور الباطن مثلما يعرف الطبيب درجة حرارة الجسم؟ حقا إن دهشتك أشبه بدهشة رجل يعرف لماذا تلائم بعض الأجسام السليمة الأطعمة الحلوة وتلائم بعضها الآخر الأطعمة المرة، أو لماذا ينتفع بعض المرضى بالعقاقير الخفيفة وينتفع الآخرون بالعقاقير الحادة والمرة، ولكن الطبيب لا يدهش لهذه الأشياء لأنه يعرف سبل الصحة والمرض ومواصفاتهما، وماذا تكون صحة الروح غير الفضيلة؟ وماذا يكون مرضها غير الرذيلة؟ ومن يكون حافظ الخير وطارد الشر غير الله ... حارس الأرواح وشافيها؟ إن الله لينظر من علياء عنايته ويرى ما يلائم كل إنسان وييسره له.
من هنا إذن يأتي السبب الواضح للاندهاش من نظام القدر: إله حكيم يفعل وبشر جهول يستغرب أفعاله.
ولكي أطلعك على شيء من عمق الحكمة الإلهية بقدر ما يسمح الفهم البشري، وكيف أن ما يبدو لك فضلا وعدلا قد يبدو غير ذلك من منظور العناية ... منظور العليم البصير: ألم ينبئنا زميلنا الفيلسوف لوكانوس
Lucanus
أن «القضية الرابحة راقت الآلهة ولكن القضية الخاسرة راقت كاتو
Cato »، مع أنه كان مثالا للفضيلة؟ ومن ثم، كلما شهدت شيئا يجري على غير ما تريد وتحتسب فاعلم أن الأحداث تجري مجراها الصحيح ولكن رأيك هو الزائغ والملتبس.
ولكن إذا كان هناك امرؤ يعيش حياة صالحة عند الله والناس معا، غير أنه خائر الروح غير جلد، وقد يتنكب طريق الصلاح إذا سارت ضد يسره ورخائه، هنالك قد يكون من حكمة القضاء أن يلطف به وألا يبتلي بالضر من لا يقوى عليه.
अज्ञात पृष्ठ