ولكنها الأيام الأولى - كأية أيام أولى - كان يجب أن تمر وتحمل معها كل الذكريات المحرجة الأليمة، ومواقف الاعتذار، وعشرات المرات التي يئست فيها تماما وفقدت الأمل ... كان يجب أن تمر لكي تصل سناء إلى المرحلة التي أصبحت تجتازها بنجاح، مراحل الفهم الأولى والإحاطة بالثغرات والمزالق تلك التي تشبه مرحلة الانطلاق في تعلم ركوب الدراجات، المرحلة التي يصبح في مقدرة المرء فيها أن يبدل ويسير دون أن تسقط به الدراجة بعد بضعة أمتار.
ونفس الشيء حدث لكل ما هو خارج العمل وعلى هوامشه فزملاؤها في الحجرة الذين كانوا يبدون لها - رغم كل ما بينهم من اختلافات - متشابهين إلى درجة لا تملك التفرقة بينهم، كانت قد استطاعت أن تحفظ أسماءهم، وحتى نوع العمل الذي يؤديه كل منهم ... وأكثر من هذا بعض خصاله، ولقد اطمأنت لهم جميعا، وفي وجودهم لم يكن جهاز رادارها الأنثوي ينقل إليها أية نوايا ذكرية خافية، جميعا ما عدا الجندي فقد كان الجهاز الكامن في أعماقها يدق كلما حاول أن يقترب منها أكثر من اللازم ... كلما فضل ألا يتنحى جانبا ليفسح لها طريق الخروج ... كلما اتكأ بمرفقه على مكتبها وهو يحادثها حديث عمل في الظاهر، بينما عيونه التي يتأرجح لونها بين الصفرة والخضرة تجوب سطح المكتب ويديها، وتتأمل عقل أصابعها وخاتمها وجلد رقبتها وكل ملليمتر مربع من شفتيها، في فحص وقح خرب الذمة، لا يرده عن تصور أي شيء قد يخطر بباله وازع أو خجل، ولكنها لم تكن دقات خوف ... على وجه أخص خوف أنثى من ذكر، أو فتاة من رجل يطاردها ... كانت دقات اشمئزاز واستنكار، فلا أحد ممن تضمهم الحجرة كان قد راق أو استوقف عينيها، خاصة الجندي، فلا شكله كان عجبها، ولا طريقته في معاملتها ولا علاقته بزملائه، ولا أي رأي قاله أو كلمة خرجت من فمه، حتى عادته في تدخين سجائره نفرت منها، فقد كان يبتلع النفس ثم يفتح فمه ويترك الدخان يخرج منه وحده دون أن ينفثه أو يبذل جهدا في إخراجه، فكان يبدو وكأن الدخان الخارج من فمه مجرد رائحة منفرة خارجة على هيئة دخان، كأن في بطنه عقب سيجارة تركه أحدهم لينطفئ وحده ويخنق أنفاس المحيطين برائحة شياطه، وهي لا تدري لماذا حرص كل من زميليه الآخرين أن يخبرها - خلسة - عن حياة الجندي الزوجية الخاصة، وكيف أن له زوجتين والثالثة تقاضى منها ثمن الطلاق ... وكم استبشع عقلها الذي كان لا يزال بناتيا حالما في آرائه كل ما سمعت، وكم أصبح الجندي في رأيها بشعا إلى درجة تتقزز فيها من مجرد أن تراه يقطع عمله ويتحدث أو يضحك، أو يروي نكتة لا يقهقه لها أحد، كم تمنت في لحظاتها لو كانت رجلا لتلكمه بشدة وتعلمه الأدب، وكم تضايقت بينها وبين نفسها من سكوت زميليه والباشكاتب عنه واحتمالهم لسخافاته، كم ضايقها ذلك وأرق من جلستها إلى المكتب ... تلك التي جاءت لسوء الحظ في مواجهته، والتي حتمت عليها أن تمتنع نهائيا عن النظر أمامها طول النهار وحتى لو استوجب الوضع أن تنظر إلى الأمام.
مضايقات طالما تمنت لو كان أبوها الحنون لا يزال حيا لتشكو إليه منها، فأمها رغم كل حدبها لا تفهم، ولا تستطيع، هي التي قضت حياتها ربة البيت ورهينة المطبخ، أن تدرك تلك الأنواع الجديدة من المشاكل.
عمها، أو بالتحديد عمها «حسن أفندي» ابن عم والدها الذي كان يبسط على عائلتهم الصغيرة ظل الرجل وحمايته، ويأتي بانتظام دقيق لزيارتهم كل أسبوع مرة، كان يدرك تلك المشاكل، كان هو نفسه موظفا في الدرجة الخامسة، وقد وصلها خلال خمسة وعشرين عاما بادئا من التاسعة، كان يسألها ويبدو فاهما حين تحدثه عن تفاصيل كل شيء، وأكثر فهما حين تحدثه عن علاقاتها بمن معها من الموظفين، حتى مشكلة الجندي واستثقالها لظله وكل وجوده كان يفهمها، ويقول لها معلقا - ولا يخلو تعليقه من حكمة أو خبرة - أن مضايقات العمل جزء لا يتجزأ من العمل، لا تحاولي حلها بعواطفك فالعواطف لا تحل شيئا، حليها كمشاكل العمل بعقلك فالعقل وحده هو القادر على حلها ... العمل ومضايقاته مثل مسائل الحساب لا يمكن للعواطف مهما بلغت حرارتها أن تحلها، الحل بالعقل، بإعمال العقل، بالتفكير وتبريد الانفعالات والتدبير ... أنا مثلا كنت ...
ويحكي لها ... ولكن يبدو كل ما يحكيه بسيطا جدا بالمقارنة إلى ما هي فيه، إذ يبدو وكأنها مشاكل خلقت وفصلت خصيصا من أجلها ولإغاظتها، ولإحاطتها بجو لا تستطيع التخلص منه ... جو من الارتباك والاضطراب وعدم القدرة على الإتيان بأي حل.
ولكن الأمر لم يكن يخلو أيضا من سعادات: جمهور المكتب المتردد عليها حين يرجوها ويمتثل لكلماتها، حين يقف الرجل العريض أمامها باحترام بالغ وينحني بسرعة ورضوخ قائلا بأدب جم: أيوه يا افندم! تسعد هي في سرها وتضحك وتحس بنشوة السلطة والأهمية، ويضيع معها شعورها بأنها مبتدئة وأنها منذ دقائق كانت تقف وستقف أمام الباشكاتب ومدير الإدارة موقف تلميذة الإعدادي أمام الناظرة، هؤلاء المترددون جميعا لا يعرفون عنها أبدا ذلك الموقف، والدليل بسيط ... ها هم يعاملونها وكأن لها كل خبرة الباشكاتب وأهميته وأقدميته.
ويا لسعادتها يوم اكتشفت خطأ في الاستمارة التي حررها الجندي الأقدم منها بسنين، وذهبت في حماس بالغ تلفت نظر الباشكاتب إلى الخطأ مدعية التواضع وقلة الاهتمام باكتشافها الهائل، صحيح أنها دهشت لأن الباشكاتب لم يشنق يومها الجندي ولا حتى عنفه، ولكن ذلك لم يثبط من الإحساس الغامر بالتفوق الذي صاحبها طول اليوم.
وهناك حين مضت الشهور الثلاثة الأولى وأصبح من حقها أن تقبض ماهيتها المجمدة، وذهبت إلى الصراف في اليوم الأول من الشهر، وبدلا من إجابة النفي التي تعودها أومأ لها بغير حماس كثير إلى اسمها في القائمة، ورأته بعينها وتأكدت منه، وحين فك رزمة الأوراق من فئة الخمسة جنيهات وجعلها توقع باسمها الكامل ومضى يعد، ثم يكمل لها المبلغ من رزمة الجنيهات وأرباعها ... هناك حين غادرت الخزينة وفي حقيبتها أول ثلاث ماهيات، وحين غادرت المصلحة، ثم وهي تعبر الشارع وترى الناس وتدخل البيت بصرخة فرح بناتية قائلة إنها جوعى مدبرة أن تفاجئ أمها بالنقود رزمة واحدة ... هناك وأمها تفرح وتهم أن تزغرد وتقبل الماهية وتقبلها، وتمسك النقود بيدها وتدعو لها ... هناك وهما تجلسان بعد الغداء تتحدثان فيما يجب عمله بالنقود وتدبران أمور العيش على أساسها، بينما أخوها الطالب الأصغر يقطع المذاكرة ويطل عليهما بين الحين والحين متلصصا، وبطريقة تحس سناء معها أن جلستها مع أمها جلسة كبار، وحديثها حديث كبار ... حديث وجلسة ومواضيع تعيد لذاكرة سناء صور باهتة عن أبيها المرحوم حين كان يقبض وتراه آتيا يومها كالمنتصر، له حق رفع الصوت على أمها وفرض الرأي ... صورا عن الأيام الماضية والكلمات الغامضة التي كانت ترن في مخيلتها الطفلة رنين الخطوة الغريبة على أرض خام لم تطأها قدم بشر ... أكل العيش وعرق الجبين والماهية، ماهيتي يا ست أم سناء ... عمرك لن تدركي كيف أشقى لأحصل عليها، كيف أحرق دمي لأتقاضاها ، الماهية يا أم سناء والفلوس ... كلمات كانت سناء الطفلة تدرك بطريقة ما ما تعنيه، ولكنها أبدا لم تشعر بمعناها الحقيقي، بأنها ليست مجرد كلمات، إلا هناك حين اشتغلت هي وتحملت الفشل والضيق، وعرقت وخجلت وغلا دمها غضبا وتجمد خجلا، لتقبض آخر الأمر ... ليتحول هذا كله إلى نقود، تبدو لها على كثرتها مثلما كانت تبدو لأبيها قليلة، كل قرش منها لا يقدر تعبها في الحصول عليه بمال. •••
الذين راهنوا خسروا الرهان، والذين كانوا لا يصدقون اضطروا للتسليم، وأسابيع كثيرة مضت و«البنات» قد ثبتت أقدامهن في العمل ومكاتبهن التي كانت موضوعة على هوامش الحجرات - وضع الشيء المؤقت - زحفت زحفا غير منظور وابتعدت عن الأبواب، واستطاعت بطريقة ما أن تخلق لها أركانا ثابتة حصينة تكاد تجعل من الحجرة ذات الأربعة أركان حجرة بخمسة، وقد أضيف إليها ركن جديد لا يقل أهمية وخلودا عن الأركان الأربعة الأصيلة، وكأنما باستطاعتك دائما أن تحيل المثلث إلى مربع، والمربع إلى مسدس له أصالة المربع، وكأن لا ثابت هناك ولا خالد، والغباء فقط لمن يتصور الثبات والخلود ...
والزمن مع سناء وزميلاتها باستمرار، وكل يوم يمضي يضيف جديدا ويزيدها فهما ووعيا، وبغير أن تبذل مجهودا كبيرا كانت قد استطاعت أن تعرف عن قسمهم وعن زملائها فيه كل ما تريد معرفته، ثم بدأت معلوماتها تتعدى نطاق الحجرة وأصبحت تعرف على وجه الدقة كنه التركيب الخارجي للمصلحة، وكذلك وإلى درجة ما استطاعت بتبادل الرأي مع زميلاتها، وبالنصيحة الخالصة لوجه الله التي كان يتفضل بها بين الحين والحين زميل، أن تتبين فيما يشبه الصباح المضبب كنه التركيب الداخلي للمصلحة، ومن بيده النقل والانتداب والعلاوة، ومن الذي يقرر البدل والأوفرتايم، ومن باستطاعته الدس لدى المدير، وبين التركيبين وبين العالمين، استطاعت أيضا أن تدرك أن ثمة شخصا واحدا يقف، وحول شخصه وموقفه تلتف علامة استفهام كبرى لم تعرف كيف تفسرها أو تحلها، فموظفو المصلحة بمن فيهم الكبار، كانوا ينضوون بشكل أو بآخر تحت أي من التركيبين، هناك المدير ونوابه مديرو الإدارات والمفتشون إلى آخر قائمة الوظائف والألقاب، هؤلاء مع ما بينهم من صراع وتنازع اختصاصات يكونون الهيكل الخارجي للمصلحة. أما التيار الحقيقي الجاري في قلب المصلحة يحرك الأمور ويوجهها فقد كان يقوم على أناس قد تجد بينهم سكرتير المدير مثلا، أو موظفا في الدرجة السابعة في قسم المستخدمين، وآخر عجوزا في مكتب المراقب العام قربت إحالته على المعاش، مع كل ابتساماتهم المؤدبة، مع كل محافظاتهم على الشكل الخارجي وأداء عملهم في حدود وظائفهم لا يتعدونها، إلا أن نفوذهم بالغ الخطورة، تحد أحدهم وانتظر ما يحدث لك. وبين الوجهين يقف هذا الشخص - الجندي - لا يعمل طول اليوم بمليم، ودائم الغياب والتأخير وكثير الأخطاء، يخرج من الواقعة، حتى إذا بلغت الواقعة المدير، خروج الشعرة من العجين دون أن يمسه مجرد لفت النظر، أو على الأقل هذا هو ما خرجت به سناء بعد تجربتها الخطيرة معه؛ فلم يكد يمضي على وجودها في المصلحة أسبوع ويذهب طعم الضيافة عنها، حتى بدأت مطاردته لها، ولم تكن سناء في الحقيقة تتصور - رغم كل ما ذكره لها عمها - أن تبلغ الوقاحة حد أن يبدأ زميل لها في العمل يغازلها مغازلات علنية سمجة فاضحة، تدخل في الصباح وما تكاد تلقي على زملائها التحية حتى يرفع هو الدوسيه ليحجب وجهه عن الباقين، وينسكب اصفرار عينيه ملقيا سائلا رخيصا وزلفى كما ينسكب صفار البيضة، ويقول بهمس لا يقل زيتية عن نظراته: صباح الخير يا حلو ... يا مدوخني إنت يا حلو ... والنبي أنا دايخ وحاقع ... دانا خلاص وقعت.
अज्ञात पृष्ठ