वापस शुरुआत पर
عود على بدء
शैलियों
فقلت: «حسبك! والله يسامحك، وما أظن بك إلا أنك ستعذبين فى جهنم الحمراء عذابا غليظا طويلا يما تجحدين من نعمة سيدك وتاج رأسك ...».
وسكنت الثورة، وقرت الفورة، وجمعت الخادمة ما على الأرض من المقذوفات المرتجلة المصنوعة من لباب الخبز الطرى على هيئة الكرات الصغيرة. وهى خادمة «فلكية» تغنيني عن مرصد، فترينى نجوم السماء طرا في الظهر الأحمر. ورثتها عن أمى. لأنها - أى الخادمة - آنقذتها من بين أخفاف الابل فى طريق «منى» قبل عهد السيارات. وكانت أمى رحمها الله قد استصحبتها فى حجها الأول لتقوم على خدمتها. ولعلها آنست منها القدرة على الشيل والحط. وكانت - أى أمى - وهنانة لا عهد لها بالجمال ولا قدرة على احتمال المخض من سيرها فدار رأسها فتدحرجت وهوت إلى الأرض. فلولا أن نطت الخادمة ورفعتها لقضى عليها فحفظت لها هذا الجميل، وأبت أن تسرحها بعد ذلك، وأوصتنى بها خيرا، وهكذا ورثتها عنها.
والإرث يباع، أو يرهن، أو يوهب أو يبدد. ولكن الدول، كما تعلم، آجمعت - لمكيدتى - على تحريم الرق. فلا سبيل إلى بيع هذه الخادمة أو رهنها أو وهبها. ثم إنها لا تساوى ملء أذنها نخالة. ومن المستحيل تبديدها لانها هائلة الأنحاء جدا. والعمر- كل العمر - أقصر من أن يتسع لهذا الجهد. وعسير جدا إضاعتها لأنها تعرف الطريق إلى البيت. ولعله كل ما تعرفه. وقد خطر لى أن أتخلص منها، كما تتخلص الناس من قطة مزعجة لم يبق فيها خير، فيضعونها فى غرارة ويحملونها إلى مكان سحيق، وهناك يطلقونها أو يدلقونها، فتضل الطريق ولا تعود. ولكن أين الغرارة التى تسعها - أعنى الخادمة - وأين الكتف التى تقوى على حملها؟ فهى قعيدة البيت ولا حيلة لى فى ذلك.
وشر ما فيها، إخلاصها، ومن العجائب أن تنقلب المحمدة مذمة، والمزية منقصة، والفضيلة رذيلة. ولكنها الدنيا وأنت سيد العارفين. وكل ما فيها اعتبارى، كما لا أحتاج أن أبين لك. قمت مرة برحلة مع صديق لى، فأضافنا رجل كريم، سيد ماجد. ففرحنا وزهينا. فإن مثله يفخر المرء بأن يكون - أى المرء - ضيفا عليه. وكان يسبق كل رغبة لنا باقتراحها وتحقيقها. ويعنى براحتنا وسرورنا، عناية لم تترك لنا رأيا أو إرادة أو شعورا حتى بحرية التفكير. وكانت مبالغته فى تحرى مرضاتنا، عن كرم وإحساس مرهف بالواجب، لا عن ثقل نفس، أو رغبة فى التظاهر. وكنا على يقين من هذا. ولكنا مع ذلك ضقنا ذرعا بهذا الكرم. وما كدنا نرحل حتى تشهدنا كأنا كنا سجناء. وما زلنا نضحك كلما تذكرنا كيف ظلمنا هذا الرجل الكريم وغمطنا حقه وجحدنا فضله.
وأعود إلى هذه الخادمة المخلصة الأمينة فأقول إنى أغلط أحيانا فأناديها وأطلب أن تجيئنى بشىء، فتجيئنى بخلافه. ولا تغلط مرة واحدة فتجىء بما أريد.
أقول: «هاتى الكبريت».
وليس فى لفظ الكبريت ولا فى حروفه ما يمكن أن يلتبس «بالجبن الرومى». وهى ليست بالصماء فإن سمعها كسمع القطة، وأنا خفيض الصوت ولكنى آتوخى معها أن أزعق وأصيح، حتى ليبح صوتى، ويوجعنى حلقى، وأمرض يوما أو يومين ومع ذلك لا تكاد تسمعنى أطلب الكبريت حتى تقول: «حاضر» وتعمد إلى ملاءة سوداء تلفها على نفسها - فإنها حيية - وتخرج فتشترى لى جبنا قد يكون روميا غير مزيف أو مقلد، ولكنه لم يخطر لى على بال، ولا كانت لى رغبة فيه.
وأراها مقبلة على تحمل على كفيها صينية عليها طبق فيه الجبن الرومى وشوكة وسكينة وفوطة ولقمة - فإنها تدرك من تلقاء نفسها وبغير حاجة إلى تلقين أن الجبن لا يؤكل وحده فلابد من خبز معه، وما دام سيدها سيأكل، وقد اشتهت نفسه الجبن الرومى فهل تتركه يوسخ يده؟ معاذ الله، وهذا هو تفسير الشوكة والسكينة.
وأنظر إلى هذا الذى على يديها فأتميز من الغيظ. وأكاد أطق وأنفلق، ولكنى ألم نفسى بجهد، وأهز رأسى، وأروح أتعجب لقدرة ربى على خلق كل هذه الأصناف من الناس. هذه امرأة لها كل ما لى - تقريبا - من الأعضاء. وليس ينقصها شىء. وهى تتكلم العامية التى نتكلمها ولا أعرف لها لغة غيرها. ومع ذلك لكل لفظ فى هذه اللغة معنى عندها غير معناه عندنا. فالكبريت معناه الجبن الرومى. والكتاب معناه طاحونة البن. والكلب معناه «الخيط وإلابرة». والكمون معناه السجاير إلخ.. حتى لقد خطر لى أن الألفاظ التي تبدأ بالكاف هى التى انفردت عندها بهذا الحال المقلوب. وأنا أحصى هذه الألفاظ - إيثارا للراحة - وآثبت معانيها إلى جانبها ليتسنى لى أن أخاطبها بلغتها فأقول لها مثلا: «خذى اشترى لى كمونا» ويكون مرادى السجاير. أو: «هاتى كلبا وخيطى هذا الزرار» وإذا مر بالشارع الذى يصلح طواحين البن قلت: «خذى الكتاب فأصلحيه عنده» أو: «اشترى لنا كرنبا» أى بترولا ... إلخ إلخ ولكنى أخشى أن تتطور اللغة عندها وتكتسب الألفاظ كل بضعة أيام معانى جديدة فيذهب تعبى سدى.
وآه إذا مرضت ... تلازمنى ولا تبرح كرسيها إلى جانب سريرى، وليتها تسكت ولكنها لا تكف عن الكلام والدعاء والتنهد وضرب الكف بالكف. ثم ليت هذا كان كل ما تصنع فإنها تفتأ تجسنى، وتلفنى، وتدس اللحاف تحتى هنا، وههنا، وتسوى لى المخدة، وترفع رأسى وتحطها، وتستخبرنى عن حالى ومبلغ سوئه، حتى يكاد عقلى يطير. وما دمت مفطوما عن طعام أهل البيت وملتزما الحمية الموصوفة فهى صائمة، لا كصيام المسلمين من عباد الله، بل كصيام غاندى إلا عن قطرات من الماء كحسو الطائر، لبل الريق.
अज्ञात पृष्ठ