3
وغمر الليل تلك البطاح بردائه الأسود، ونمت العاصفة، وغزرت الأمطار حتى خيل لي أن الطوفان قد جاء ثانية ليبيد الحياة ويطهر الأرض من أدرانها، وكأن ثورة العناصر قد ولدت في نفس يوسف الفخري تلك الطمأنينة التي تجيء في بعض الأحايين مظهرا لرد الفعل، فتحول نفوره مني إلى الاستئناس بي، فقام وأشعل شمعتين، ثم وضع أمامي جرة طافحة بالخمر، وطبقا عليه الخبز والزيتون والعسل وبعض الأثمار المجففة، ثم جلس قبالتي، وقال بلطف: «هذا كل ما عندي من الزاد فتفضل يا أخي وشاركني به».
تناولنا العشاء صامتين صاغين إلى ولولة الريح وبكاء الأمطار، غير أنني كنت أتبصر وجهه بين اللقمة والأخرى، مستفسرا ملامحه عن غوامضه، سائلا معانيه عن الميول، والمقاصد المستحكمة بوجدانه.
وبعد أن رفع المائدة تناول من جانب الموقد إبريقا نحاسيا، وصب منه قهوة صافية زكية الرائحة في فناجين، ثم فتح علبة مفعمة بلفائف التبغ، وقال بهدوء «تفضل يا أخي».
فأخذت لفافة رافعا بيدي فنجان القهوة، وأنا لا أصدق ما تراه عيني، فنظر إلي، وكأنه قد سمعني مفكرا، فابتسم هازا رأسه، ثم قال بعد أن أشعل لفافة، وشرب قليلا من القهوة: أنت بالطبع تستغرب وجود الخمر، والتبغ، والقهوة في هذه الصومعة، وقد تستغرب وجود الطعام والفراش، وأنا لا ألومك؛ فأنت واحد من الكثيرين الذين يتوهمون أن البعد عن البشر يستوجب البعد عن الحياة من الملذات الطبيعية، والمسرات البسيطة.
فأجبته: «نعم يا سيدي لقد تعودنا الاعتقاد بأن من يتنحى عن العالم ليعبد الله يترك ورائه كل ما في العالم من الملذات، والمسرات؛ ليعيش وحده متنسكا، متقشفا، مستكفيا بالماء والأعشاب».
فقال: «لقد كان بإمكاني عبادة الله وأنا بين خلقه؛ لأن العبادة لا تستلزم الوحدة والانفراد. وأنا لم أترك العالم لأجد الله؛ لأنني كنت أجده في بيت أبي، وفي كل مكان آخر، ولكنني هجرت الناس؛ لأن أخلاقي لا تنطبق على أخلاقهم، وأحلامي لا تتفق مع أحلامهم، تركت البشر؛ لأنني وجدت نفسي دولابا يدور يمنة بين دواليب تدور يسارا، تركت المدينة؛ لأنني وجدتها شجرة مسنة فاسدة، قوية هائلة عروقها في ظلمة الأرض، وأغصانها تتعالى إلى ما وراء الغيوم، أما أزاهرها فمطامع، وشرور، وجرائم، وأما أثمارها فويل، وشقاء، وهموم، ولقد حاول بعض المصلحين تطعيمها، وتغيير طبيعتها، فلم يفلحوا بل ماتوا قانطين، مضطهدين، مغلوبين على أمرهم».
واتكأ إذ ذاك إلى جانب الموقد، وكأنه قد وجد لذة في تأثير كلامه علي، فرفع صوته أكثر من ذي قبل، وزاد قائلا: لا، لم أطلب الوحدة للصلاة، والتنسك؛ لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله وإن تصاعدت ممزوجة بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني؛ لأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح، وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل؛ لتبقى قوية نظيفة لائقة بالألوهية التي تحل فيها، لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة، والتقشف؛ بل طلبتها هاربا من الناس، وشرائعهم، وتعاليمهم، وتقاليدهم، وأفكارهم وضجتهم، وعويلهم. طلبت الوحدة؛ لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدرا وشرفا. طلبت الانفراد؛ لكي لا ألتقي بالنساء اللواتي يسرن ممدودات الأعناق، غامزات العيون على ثغورهن ألف ابتسامة، وفي أعماق قلوبهن غرض واحد.
طلبت الانفراد لكي لا أجالس ذوي «النصف معرفة» الذين يبصرون في المنام خيال العلم فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة، ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق. طلبت الخلوة؛ لأنني مللت مجاملة الخشن الذي يظن اللطف ضربات من الضعف، والتساهل نوعا من الجبانة، والترفع شكلا من الكبرياء. طلبت الخلوة؛ لأن نفسي تعبت من معاشرة المتمولين الذين يظنون أن الشموس ، والأقمار ، والكواكب لا تطلع إلا من خزائنهم، ولا تغيب إلا في جيوبهم، ومن الساسة الذين يتلاعبون بأماني الأمم، وهم يذرون في عيونها الغبار الذهبي، يملئون آذانهم برنين الألفاظ، ومن الكهان الذين يعظون الناس بما لا يتعظون به، ويطلبون منهم ما لا يطلبونه من نفوسهم. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري؛ إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي. طلبت الوحدة، والانفراد؛ لأنني سئمت ذلك البناء العظيم الهائل المدعو حضارة، ذلك البناء الدقيق الصنع والهندسة، القائم فوق رابية من الجماجم البشرية. طلبت الوحدة؛ لأن في الوحدة حياة للروح، والفكر، والقلب، والجسد. طلبت البرية الخالية؛ لأن فيها نور الشمس، ورائحة الأزهار، وأنغام السواقي. طلبت الجبال؛ لأن فيها يقظة الربيع، وأشواق الصيف، وأغاني الخريف، وعزم الشتاء. جئت إلى هذه الصومعة المنفردة؛ لأنني أريد معرفة أسرار الأرض، والدنو من عرش الله».
وسكت متنفسا الصعداء كأنه ألقى حملا ثقيلا عن عاتقه، وقد تلمعت عيناه بأشعة غريبة سحرية.
अज्ञात पृष्ठ