وإن ابن الأثير ليخبرنا في حوادث سنة خمس وعشرين ومائة، أن الوليد قد ولى نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعماله، فرد إليه الوليد ولاية خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يقدم معه عماله أجمعين. ثم قال: وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان، وكل باز وبرذون فاره، ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان.
ثم انظر ما يقوله الأغاني من عامل لعبد الملك بن مروان على خراسان، وهو أمية بن عبد الملك الذي كتب إليه يقول: «إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي»، وما أثبته القاضي ابن خلكان في تاريخه عن أبي خالد يزيد بن أبي المثنى عمر بن هبيرة والي مروان بن محمد على العراق من أن رزقه كان ستمائة ألف درهم.
هذا إلى ما نزل بأهل الذمة وغيرهم من العسف وزيادة الضرائب، وما كان من تخلية أصحاب الأراضي لها بغير حرث ولا زرع، وما كان من مبالغة العمال في إهداء الخلفاء ، ونزوعهم إلى جمع الثروة واختزان المال؛ فإنك بعد كل هذا تطمئن معي إلى الاقتناع بأن العمال الكفاة مصدر قوة في بناء الممالك، وعنصر يحفل به في مادة حياتها، وأنهم عنوان مهابتها وصولتها، وأن الولاة الظلمة الضعاف مصدر ويل وثبور، وأداة هدم وتخريب وانتثار وفناء.
وإنا نسوق هنا كلمة لبعض بني أمية - حين سئل عن سبب زوال ملكهم - لا تخلو من عظة واعتبار، قال: «... قلة التيقظ، وشغلنا بلذاتنا عن التفرغ لمهماتنا، ووثقنا بكفاتنا فآثروا مرافقهم علينا، وظلم عمالنا رعيتنا ففسدت نياتهم لنا، وحمل على أهل خراجنا فقل دخلنا، وبطل عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعداؤنا فأعانوهم علينا، وقصدنا بغاتنا فعجزنا عن دفعهم لقلة أنصارنا، وكان أول زوال ملكنا استتار الأخبار عنا، فزال ملكنا عنا بنا.» (4) الوجهة الدينية
إن سنة معاوية في بناء دولته لم تكن - مع ما نعلمه من ترخصه في إقامة الحدود في بعض الأحوال لضرورات سياسية - سنة استهانة بالدين، ولا إمعان في ازدرائه أو الخروج عن جل مظاهر الاحتشام الديني الخليقة بمن يسوس أمور الدين والدنيا، هذه سنة معاوية وطريقته في سياسة الملك، أما خلفاؤه فقد تنكب جلهم سنته الحكيمة، وأطلقوا لشهواتهم العنان فيما ينبغي أن يكون خلفاء المسلمين وأئمتهم بنجوة منه، وقد كان لذلك آثاره في الدولة من حيث تأثر أخلاقها القومية، وما أصابها من انحلال وضعف، ومن تفكك وفتور. وسنعالج تصوير هذه العوامل بإيجاز واقتضاب في كلمتنا هذه؛ فلا نفرد لكل منها بابا وإن كنا نعلم أنه يترتب على توضيحنا لهذه الأصول فائدة جلى، بيد أن اتساع نواحي الموضوع وتشعب فروعه ومختلف أبوابه، كل ذلك يلزمنا إلزاما اتباع ما رسمنا لأنفسنا من القصد والاعتدال.
لسنا بحاجة - على ما نظن - إلى تصوير أخلاق من فيهم الكفاية من خلفاء معاوية من ناحية الدين والخلق العام؛ لأن فيما عالجناه من تحليل أخلاق معاوية الغنية والكفاية.
نريد الآن أن ندرس تلك الناحية العكسية، ناحية أولئك الخلفاء الذين لم يبالوا التقاليد الدينية فازدروا طقوسها، مع ما كان فيهم من ضعف وما بهم من خرق.
إن أمامنا يزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، أما ابن معاوية فقد أصاب اليعقوبي سدرة الصواب حين وصفه بأنه حلف نسوة، وصاحب ملاه، ويكفي أن ندرس حياته - مع أن الدولة كانت في إبان قوتها وميعة شبابها - لنقتنع بأنها كانت بمثابة معاون هدم وتخريب، وإن في إلمامنا بما كان من مسلم بن عقبة الذي انتهك المدينة لمقنعا بما نقول؛ لقد كان جند يزيد بعد واقعة الحرة وغيرها يطلبون إلى الرجل القرشي أن يبايع ليزيد، لا من ناحية اقتناعه الديني طبعا، ولا بدافع الترغيب والمال، ولا بسياسة الرقة واللطف التي قد ينال بها أكثر مما ينال بالشدة والعنف؛ بل من ناحية السيف والإرهاب، يجب أن يبايع وأنفه راغم، ويجب أن يبايع مع ما يرى من انتهاكهم المدينة، كانت جند يزيد تقول للقرشي: بايع على أنك عبد قن ليزيد، فإن أبى ضرب عنقه، فكانت مقتلة ذريعة، ثم انظر ما كان من حصارهم مكة التي إذا قال قائلها: «يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله يا أهل الشام.» صاح الشاميون: «الطاعة الطاعة.»
لنترك يزيد جانبا محيلين القارئ إلى ما في الأغاني وغيره من كتب الأدب والتاريخ، ولنردد الطرف في حياة يزيد بن عبد الملك، فنجد أبا الفرج الأصفهاني يذكر لنا، في غير موضع من حياة سلامة القس وحبابة وغيرهما، شيئا لا يستهان به عن إسرافه في تهتكه، فينقل لنا عن المدائني قوله: قدم يزيد بن عبد الملك المدينة في خلافة سليمان، فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبيد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى الغالية بألف دينار.
وفي رواية محمد بن سلام أنه اشتراها بأربعة آلاف دينار، ويقول في موضع آخر: إن رسل يزيد بن عبد الملك قدمت المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار.
अज्ञात पृष्ठ