عصر الحب
عصر الحب
عصر الحب
عصر الحب
تأليف
نجيب محفوظ
عصر الحب
1
يقول الراوي:
ولكن من الراوي؟ ألا يحسن أن نقدمه بكلمة؟ إنه ليس شخصا معينا يمكن أن يشار إليه إشارة تاريخية، فلا هو رجل ولا امرأة، ولا هوية ولا اسم له، لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات، يحدوها ولع بالحكمة والموعظة، وتستأسرها عواطف الأفراح والأحزان، ووجدان مأساوي دفين، وعذوبة أحلام يعتقد أنها تحققت ذات يوم. إنه في الواقع تراث منسوج من تاريخ ملائكي ينبع صدقه من درجة حرارته وعمق أشواقه، ويتجسد بفضل خيال أمين يهفو إلى غزو الفضاء رغم تعثر قدميه فوق الأرض الأليفة المتشققة التربة وثغراتها المفعمة بالماء الآسن.
अज्ञात पृष्ठ
وإني إذ أسجله كما تناهى إلي، إذ أسجله باسم الراوي وبنص كلماته، فإنما أصدع بما يأمر به الولاء، وأنفذ ما يقضي به الحب، مذعنا في الوقت نفسه لقوة لا يجوز المجازفة بتجاهلها. •••
يقول الراوي:
إنه كانت تعيش في حارتنا أرملة تدعى ست عين. امرأة قوية عجيبة الأطوار مثيرة الأوصاف، كائن فريد لا يتكرر، يدعو إلى الحذر بين يدي الحياة الغامضة التي لا حدود لإمكانياتها. وتبدأ حكايتها عادة وهي أرملة في الخمسين ذات ابن وحيد يدعى عزت، في السادسة من عمره. لم لم تبدأ الحكاية قبل ذلك؟ لم لم تبدأ وهي صبية أو وهي عروس؟ لماذا لا يحدثوننا عن عم عبد الباقي زوجها؟ لم لم تنجب إلا عزت؟ ولم أنجبته على كبر؟ أجاء النقص منها أم من الزوج؟ ولكن ماذا يهم ذلك كله؟ الراوي ملتزم برؤيته، ولو تحرر منها لوجب أن يسترسل في التقصي حتى يبلغ رحاب أبينا آدم وأمنا حواء. إذن فلتكن البداية وست عين في الخمسين ووحيدها عزت في السادسة، وهي امرأة مرموقة ذات شأن ينمو ويتضخم مع الزمن كمدينة صاعدة، تملك جميع العمارات الكبيرة في الحارة؛ فهي ثرية واسعة الثراء، بل لا مثيل لثرائها، ولا أدري إن كانت هي موجدة الثروة أم زوجها، ولكن مما يذكر أن شقيقتها أمونة لا تملك شيئا. أجل لا يقطع ذلك بأن ثروتها موروثة عن زوجها؛ فقد نتصور أن الشقيقتين تساوتا ذات يوم في إرث محدود، بددته أمونة على حين استثمرته عين. على أي حال كانت أغنى شخص في الحارة بلا استثناء للمعلمين والتجار.
وإلى الثراء الواسع خصت بصحة رائعة. يقولون إنها حافظت على رونق الشباب وهي في الخمسين من عمرها؛ لم يبهت سواد شعرة من شعرها، ولا اشتكى لها عضو، متينة البناء متوسطة القامة، لا بدانة تثقلها ولا نحافة تعيبها، يتكور نهداها شامخين وسالمين من أثر الرضاعة، ويكونان في مقدمة الجسد مركز ملاحة مستترا كأنه - بلغة اليوم - محطة إرسال، ولكنه مغلف بالجلال الزاجر، وأجمل قسماتها العينان السوداوان يشع منهما نور هادئ ذائب في الحنان، أما الأنف فدقيق ولكنه طويل يرشحه طوله لوجه رجل، كذلك فوها الواسع الممتلئ. ويحدثونك كثيرا عن لون بشرتها القمحي النقي الذي لم تمسه الأصباغ، وخمارها الأبيض وجلبابها السابغ وتلفيعتها السمراء؛ فلم تر في الطريق مندسة في ملاءة لف أو تزييرة أو متحجبة ببرقع أسود أو أبيض؛ متحدية الألسن بوقار العمر وهيبة الخلق وسحر السلوك وحصانة المنزلة، معتزة بسمعة مثل شذا الورد، وفي حارتنا لا يغض البصر عن نقيصة، ولا تعفى نقيصة من القيل والقال والحفظ والتسجيل؛ لذلك فليس أبقى في الذاكرة من سير الفتوات والقوادين والعاهرات، ونغالي فنؤرخ بهم الأحداث؛ فتقرن الذكرى بحياة الضبش أو الدنف أو علية كفتة؛ فأن يمضي تاريخ ست عين بلا كلمة واحدة تسيء إليها دليل قاطع على نقائها وطهارتها وفضائلها الجمة. وهي تمشي إذا خرجت في الطريق في صحبة مظلة لا تتخلى عنها صيفا أو شتاء، تتقي بها الشمس أو المطر أو تنذر بها - في الأحوال النادرة - من يتعرض لها من السكارى أو المسطولين، ويا ويل من يتعرض لها في ذهوله من أهل الطريق. الحق أنها لم تكن مصونة بسبب عفتها فحسب، ولكن لقوة شخصيتها أولا وأخيرا. كانت بحكم وظيفتها المالية تستقبل الكثيرين من السكان والمتعاملين، وكانوا سرعان ما يفيقون من سحر جمالها تحت تأثير صوتها القوي ومنطقها الجدي ونظراتها النافذة. حتى الفتوات لم تسول لهم أنفسهم الاستهتار في محضرها، وربما رجعوا من لقائها وهم يتمتمون: «يا لها من رجل!» غير أن ذلك لم يعن أكثر من خيبة ثعلب مكار أو هزيمة محتال. لم تكن رجولتها إلا أسلوبا وجدته مناسبا للتعامل في حارة هي أعلم الناس بأحوالها. لم تكن نقصا في أنوثة أو خشونة في طبع أو قناعا لستر عورة. كلا ... بل كانت الرحمة عينها. لم تصر أسطورة إلا بفضل رحمتها. لو أنها التزمت المكث في دارها لسعى إليها المحتاجون. وما دارها إلا أجمل دار في الحارة. من الخارج لا يتجلى منها إلا جدار حجري معتم لا يعد بخير، تتوسطه بوابة غليظة متهجمة تحمل فوق هامتها تمساحا محنطا، وفي نقطة الوسط منها مطرقة نحاسية غبراء على هيئة قبضة بشرية. إذا فتحت البوابة تبدت الدار جليلة وافية التقطيع تشي بالعز والنعيم، وترامت وراءها حديقة تنفث أخلاطا من روائح الياسمين والحناء والفواكه، تدور حول فسقية ارتفع فوق سورها الرخامي سور من الخشب منذ تعلم عزت المشي والجري والمغامرة. ومذ ترملت لم تعد تنتظر المحتاجين في دارها. انطلقت في الحارة بمظلتها، تهبط على المحتاج في داره، ألفت التجوال الرحيم، أصبحت الزائرة المترددة أبدا على ربوع الفقراء، تنغمس في أسر الكادحات والأرامل والعجزة. يقول الراوي: إن الحارة نسيت في أيامها البؤس والجوع والعري، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن. تلاشت الهموم جميعا تحت مظلة عين؛ عين الحنون، القلب الخفاق بالحب، الجود الوهاب بلا حساب، التي تدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين. إنها الطل يهطل على القفر فيتركه أخضر يانعا يرقص بماء الحياة. أم الحارة ... المودعة بالدعوات الصالحات والبسمات المشرقات والامتنان الوفير؛ باسمها يحلفون، بنوادرها في الإحسان يتذاكرون الحقيقة والمعجزة والأسطورة. وكانت تصادق وتناجي وتألف وتؤلف قبل أن تقدم الدواء، كانت تتسلل إلى أعماق القلوب الجريحة؛ فتعايش الآلام وتخالط الأحزان وتوادد التعساء كأنما تتعامل مع أبناء أو تؤدي رسالة طرحتها عليها قوى الغيب. ويقال إنها مارست الإحسان في حياة زوجها عم عبد الباقي في نطاق الدار وبقدر محدود ثم انطلقت انطلاقتها الوردية عقب ترملها. كان المظنون أن تقتصد عقب الترمل، وأن تقتصد أكثر حبا في عزت الصغير، ولكنها تجاوزت منطق الأشياء بجناحين مستعارين من الفردوس، رغم أمومة قوية وعميقة، فلم تسعد امرأة كما سعدت بالأمومة التي وهبتها في فترة حرجة غير متوقعة. اعتبرت عزت هبة السماء لقلبها الوحيد. أسرها الامتنان للرحمن وأحيت ليالي البر للحسين والسيدة وأبو السعود طبيب الجراح. وكم أمضت من دهور وهي ترنو بمقلة مسحورة إلى الوجه الصغير ثم تمضي في طريق الخير ناشرة شراع الرحمة، في وجهه يتراءى أنفها الطويل وبشرتها النقية وعينا الأب الجاحظتان. وقالت إنه ولد لا بنت. والعبرة بالقلب، فليكن قلبه عذبا حنونا. وهو نشيط وأناني ولا يتخلى عنها إلا بالهزيمة، وهو أيضا مدمر يبعثر الأزهار ويطارد النمل ويقتل الضفادع، ولا ينام إلا وهي تقص فوق رأسه القصص. أيظن نفسه سلطانا؟ هكذا تتساءل ضاحكة، تتساءل بقلب شكور ونفس زاخرة بالرضا وبهجة الزهور المتفتحة. ويخطر لها على سبيل الدعابة أن تفصل له جبة وقفطانا وعمامة، وترامقه وهو يتزيى بها طروبا ثم تقول: «ما أجمل أن نهديها بعد زهدك فيها إلى الشيخ العزيزي!» ثم تعرضه على صديقاتها من طلاب الرحمة متسائلة: «ما رأيكن في هذا الشيخ؟» فيجبنها: «قمر ورب الحسين، فليمد الله في عمره إلى الأبد.» وتتفكر قليلا في «إلى الأبد»، وهي ذكية بقدر ما هي مؤمنة. وتغشى سحابة ربيع صفاءها فتغمغم: «فليكن يومي يا رب قبل يومه، ولتدفنني عند القضاء يداه.» وسرعان ما تتذكر جيلا راحلا من أحبائها فتقتحم مخيلتها القبور والشواهد، والصبار والرياحين، وصور مسربلة بالحياة من البشر، فتغمغم مرة أخرى: «إنهم أحياء معنا، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله.»
وتسألها أم سيدة ذات يوم: كيف صرت أشرف خلق الله؟
فتستغفر الله تواضعا وتتمتم وهي تداري سرورها الذي تجلى في ابتسامة خفيفة كلمعة ضياء في سحابة يمر وراءها القمر: ما هي إلا رحمة الله بعابدة مخلصة.
ثم تسائل نفسها: كيف لي أن أدري بما يجعل سعادتي في الحب العطاء؟
وعرف وذاع أنه عندما مرض عزت بالحصبة قد مكثت مسهدة لا تذوق النوم ثلاثة أيام. •••
وقد مضى زمن وجاء زمن. تغيرت حارتنا بدرجة ملموسة وتمخضت عن أجيال جديدة ذات مزايا باهرة ولا تخلو أيضا من غرابة، وكانوا يتخذون موقفا خاصا مما يروى عن ست عين؛ موقفا يتسم باللامبالاة ولا يخلو أحيانا من قسوة: لم نطالب بتصديق ما يروى دون مناقشة؟ - إنها حكاية جميلة، ولكن هل تصمد أمام التمحيص؟ - ألا ترون أن التاريخ العلمي نفسه تحوم حوله الشكوك؟ - الإحسان ظاهرة حقيقية، ولكن ليس على تلك الصورة. - ولا تنسوا أن الإحسان نفسه لعبة من ألاعيب الأنانية. - إليكم حقيقة ست عين التي طمس الحب عليها، كانت مجنونة بالرحمة والإحسان ... ولكنها لم تجد العين التي تنفذ في أعماق الظواهر، ولو وجدتها لتكشفت عن امرأة أخرى لها سيرة بشرية حقيقية، وربما حافلة بالفضائح. ••• - ما عسى أن أقول ردا على ذلك؟ أقول ما سبق أن قلت من أن حارتنا تتطوع دائما بتكبير العيب ونشره، ولكنها لا تعترف بالخير إلا عندما لا تجد مفرا من ذلك. فضلا عن ذلك فإن حكاية عين لا تخلو من ضعف بشري؛ مما يؤكد صدقها وواقعيتها، ولكننا نأبى التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن. المحاكم مكتظة بالأخوة، ومن يسقط في الطريق يموت وحيدا. وما زلت متشبثا بتصديق حكاية عين؛ فما من حكاية إلا وتعبر عن حقيقة ما، كما أنه ما من ألم إلا ويشير إلى جرح ما. فحق لا شك فيه أن ست عين تمشي متلفعة بشملتها السمراء ومظلتها العتيقة وجلبابها السابغ. الابتسامة تشرق في صفحة وجهها الوقور، تسعد بالدعاء والتحيات والنظرات المعجبة، تمضي نحو الربوع البالية، تجلس بين التعساء وتهتف: كيف حالكم يا أحباء؟
تسأل عن زينب وعم حسين وأم بخاطرها، ثم تغادر المكان بعد أن فرشته بورود الرحمة، وما أكثر الذين يطالبون بدراستها على ضوء الغريزة والأنا والأنا الأعلى! ما أكثر الذين يحومون حول حياتك الجنسية يا عين! ما أكثر الذين ينقبون لك عن فضيحة في حفائر الذكريات! •••
अज्ञात पृष्ठ
ويقول الراوي: إن عين كانت تعشق الفصول الأربعة. ألفنا أغلبية الناس تؤثر بالحب فصلا بعينه أو فصلين، أما هي فكانت تعشق الفصول الأربعة. تحب الشتاء والسحب والمطر، لا تحول رياحه بينها وبين الجولات الثملة بالعطف، ولا يفزعها مطره إذا انهل فوق مظلتها المنشورة وجرى تحت قدميها ماء عكرا. وتحب الصيف وتتوافق سريعا مع حرارته وتنوه بلياليه العذبة، وتعشق الخريف وتقول عنه إنه فصل الجمال المغسول، والليالي المفتونة بالنجوى وتحيات الوداع المتبادلة. أما الربيع فهو فصل الحديقة والأصوات، وتجيء الخماسين محملة بالرسائل من أراض بعيدة مجهولة تشتعل أفئدتها بنار مقدسة، وهي تستجيب ولا شك للفصول المتغيرة بطبيعتها السمحة وإيمانها الراسخ.
وتموج حارتنا بالعواطف والانفعالات والأصوات المتلاطمة، وتجتاحها العواصف والخصومات ووجهات النظر المتضاربة، فتتابع ذلك بهدوء وإشفاق، وتدعو للخير أن ينتصر، ولا يرد على قلبها خاطر سوء أبدا. ولم يكن عن لامبالاة صفاؤها؛ فهي تدري غالبا - هي التي لا تنقطع عن الناس - أين يتأرجح الخير وأين يكمن الشر، وهي كما قلنا تدعو للخير أن ينتصر، ولكنها لا تنسى أن جميع المتنازعين أو كثرة منهم في حاجة إلى عونها. •••
ومما يذكر أن عامة المستهينين بها لم يعاصروا نشاطها، ولم يدركوا الفترة الأخيرة من حياتها، ولا شهدوا ختامها. ومما يذكر أيضا أن أكثرهم نشأ وتربى وشق طريقه بفضل إحسانها ورحمتها، ولكنهم يجهلون ذلك، أو يتناسونه أو يسيئون تأويله كما رأينا، وتتلاحق الأعوام فتتضخم السيرة في ضمير الراوي حتى تصير جبلا شاهقا، ولكنه مثل سائر الجبال يتعرض لعوامل التعرية.
2
وذات يوم - كما يقول الراوي - تجلس ست عين تحت خميلة الياسمين في الحديقة ترمي بلباب الخبز المغموس في المرق إلى مجموعة من القطط لا تقل عن الخمس عدا، وعزت واقف بجلبابه المقلم وصندله فيما بين الخميلة والفسقية، يقبض بيده الصغيرة على شعاع الشمس الغاربة الذي يتقلص على جذع شجرة الليمون. الصيف يودع الأيام الأخيرة من رحلته ولم يبق على مدفع الإفطار إلا قليل. وعين تطعم القطط بيدها، وتؤلف بينها وبينها ساعات الطعام وساعات المؤانسة؛ الأم «بركة» طحينية اللون ذات نجمة بيضاء في وسط الرأس، والأب «أبو الليل» أسود فاحم، إنعام وصباح من سلالتهما، ونرجس مهداة من أسرة غريبة، وكلهن روميات منفوشات الشعر، عن العلاقة الحميمة بينها وبين القطط، عن التفاهم والتخاطر، عن المودة والتناغم، عن الطاعة والدلال، عن الولاية والأسرار، عن كل أولئك تحكي القصص والنوادر.
وفي الهدوء يعلو صوت مستأذنا: يا أهل الله!
ترامى من ناحية الممر المفضي إلى مدخل الدار. تبتسم عين مستأنسة وتهتف: تعالي يا أم سيدة.
تقبل المرأة في ملاءتها اللف سافرة الوجه شأن الكادحات من نساء الحارة، تتبعها صغيرتها «سيدة» بشعرها الممشط وقبقابها الأخضر، تتصافح المرأتان على حين تمضي سيدة بتلقائية نحو عزت لتشهد صراعه مع شعاع الشمس الغاربة. ورغم أنها تماثله في السن - السادسة - إلا أنها تكبره تجربة ووعيا بأربعة أعوام. التفت نحوها التفاتة مقتضبة ثم رجع إلى الشعاع، ووقفت هي تراقبه باسمة وصامتة. وقالت عين لأم سيدة: لم أرك منذ ثلاثة أيام يا ولية يا خائنة.
تضحك أم سيدة من حنجرة غليظة وتقول: للرزق أحكام يا ست الكل.
ثم وهي تجلس فوق الأعشاب عند قدمي عين: ربنا يعلم أن يوما يمر من غير أن أراك لا يحسب من العمر.
अज्ञात पृष्ठ
القطط في حركة متوترة بين انكباب على اللباب والتحديق في عين بأعين شفافة مذعورة، وقالت عين: دائما تعثرين على الكلمة المناسبة، مشغولة بعروس جديدة؟ - الخاطبة تشوف العجب، من يصدق أن عريسا يرفض من أجل حلة نحاس؟! - ماذا تقصدين؟
أدركت أم سيدة أنها فهمت قصدها، فقالت باسمة: إنه شاب يستحق الإحسان!
تقوست بركة فارتفع ذيلها مثل نافورة، شبعت فيما يبدو، وثبت فاستقرت فوق الأريكة جنب عين؛ فهدهدتها براحتها، وبركة تستجيب مثل موجة راقصة. تساءلت أم سيدة مترددة وموجهة خطابها إلى القطة: كيف أنت يا نرجس؟
فهتفت عين: إنها بركة، أرأيت كيف نسيت أهل الدار؟!
فضحكت أم سيدة، ولمحت عزت فهتفت: كيف حالك يا سي عزت؟
فلم يهتم بها. وقالت عين معتذرة عنه: إنه مشغول بشعاع الشمس!
فضحكت أم سيدة كرة أخرى وقالت بحماس: رائحة الملوخية تملأ الحارة! - أهذا ما جاء بك يا نهمة؟
فراحت المرأة تناجي شذا الياسمين والحناء في نبرة غزل ممطوطة منغمة. •••
عقب الأذان غيرت عين ريقها على عصير خشاف فاتر ثم نهضت لتصلي المغرب، على حين جلست أم سيدة إلى المائدة بعد أن نزعت عنها الملاءة وهي تتمتم: «لا حياء في الجوع.» وراحت خادمة تشعل المصباح الغازي الكبير المدلى من السقف فوق السفرة، ثم أشعلت قنديل الفراندة المطلة على الحديقة، ومضى الإفطار في المضغ تتخلله كلمات عابرة. وانتقلتا بعد ذلك إلى الشرفة فجلست عين على الكنبة، وآثرت أم سيدة أن تقتعد شلتة لتمد ساقيها ترويحا لمعدتها المتخمة. ولفت سيجارة، تخدرت من أول نفس، نعست عيناها العسليتان، وانتفخ أنفها الغليظ الممسوح الأرنبة كرأس قطة. وسيطر الصمت قليلا تحت تأثير رغبة ملحة في الراحة، وجاءت خادمة بفانوس عزت الملون، فهفت نفس عين إلى الانطلاق وقالت: ما أحلى المشي عند الحسين!
فتمتمت أم سيدة ضاحكة: عندما ترجع إلي القدرة على المشي.
अज्ञात पृष्ठ
ولفت سيجارة ثانية فتمتمت عين: الشكر لله؛ فالليل جميل.
فرمقتها أم سيدة بنظرة طويلة ثم قالت: عندي ما هو أجمل. - ما عندك إلا حديث الزواج أو اغتياب عبد من عباد الله. - إنه حديث زواج! - حقا؟ ... عندك عروس لعزت؟
فقالت المرأة بابتهال: بل عندي عريس أو أكثر إن شئت.
فنظرت إليها بارتياب على ضوء القنديل الأزرق، فقالت أم سيدة: وأنت العروس المنشودة!
لوحت عين بيدها محتجة وهتفت: عليك اللعنة.
فقالت بحماس متصاعد: ما من رجل أصيل في حارتنا ...
ولكن عين قاطعتها: احتشمي يا ولية! - يا ست الستات ما زلت شابة جميلة.
فقالت بحدة: لو أردت الزواج ما لبثت حتى اليوم أرملة. - ولم تبقين أرملة؟ - هس.
زجرتها وهي تتطلع نحو السور القديم وقد علاه البدر، عظيم الثراء، عميق الحمرة، واني الضياء يبدأ رحلته. تركتها تنعم بالنظر، ولكنها أصرت على الرجوع إلى الموضوع، فقالت: ورب القمر ...
غير أنها قاطعتها بلهجة حاسمة: كفى يا أم سيدة، إنه عزت، إنه عزت وكفى.
अज्ञात पृष्ठ
ثم تنبهت من غفلة فتساءلت: أين الولد؟
فاستاءت أم سيدة من قطع الحديث وقالت: في الداخل طبعا. - وأين سيدة بنتك؟ - لا شك تلعب معه، لم يخرج، ها هو ذا فانوسه ينتظر.
قامت عين. هبطت درجتي الفراندة، غاصت في ظلمة الحديقة حتى اختفت تماما، ظهرت بعد قليل وهي تجر وراءها عزت بيد وسيدة بيد، وصوتها يتساءل في غضب: ألا تخافان النار؟
جرت سيدة نحو أمها، وقف عزت منكس الرأس. قالت عين مخاطبة أم سيدة: هي اللعنة، أرأيت؟
دارت أم سيدة ابتسامة، ولكنها هتفت وهي تزغد ابنتها: أعوذ بالله. - الولد بريء، ولكن بنتك ...
فتمتمت أم سيدة: الله أعلم. - فتحي عينك يا أم سيدة. - عيني مفتوحة دائما. •••
ولم تنس عند الوداع أن تقول لعين: لنا عودة إلى موضوعنا.
ولكن عين قالت بحزم: سدي هذا الباب بالضبة والمفتاح.
3
هامت في الصفاء المعهود خواطر قلقة، ليست بالخطيرة ولكنها تكدر بعض الشيء من ألف الصفاء. ما وجه الانزعاج الحقيقي وراء عبث الطفل؟ قد آن له أن يذهب إلى الكتاب. ورجال ثمة يطمحون إلى مالها. وتنظر إلى المرآة المثبتة في الإطار العاجي الموشى بالآيات، وتهز رأسها، وتتذكر وعدها لعزت يوم وفاة أبيه بألا تتيح مكان الأب لغريب. مضت خمسة أعوام فلم يهن العزم. الفصول وحدها تتغير وتمر الأعوام. وما يشغل بالها حقا هي شقيقتها أمونة. إنها تكبرها بعشرة أعوام؛ فهي شقيقة أمونة وأمها. وتتذكر أمهما، تتذكر بالأخص وفاتها، حزنها عند الفراق رائع، كذلك حزنها على أبيها، كما أشعل فراق الزوج قلبها. حزنها عميق كأفراحها، ولكن الحزن يعمر أكثر، ما إن تزور القبر حتى تخشع وتسترسل في المناجاة. إنهم مثلنا أحياء، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله. ما يؤلمها حقا هو حدسها أن أمونة تضمر لها الحسد، وهي من ناحيتها لا تضن عليها بخير، ولكن ذلك لا يستأصل الحسد.
अज्ञात पृष्ठ
ما زالت أمونة تقول لها: إنك تبعثرين مالك بغير حساب.
فتقول عين متضايقة: إنه مال الله.
فتقول أمونة بامتعاض يشوه حسن وجهها: مدى علمي أنه مالك أنت يا أختي!
فتقول ساخرة: لا نملك في الواقع إلا قبضتين من تراب. - لم تحبين سيرة الموت؟ - ربما لأنه يرافقنا في كل خطوة. هل ينقصك شيء؟ - أنت الخير والبركة، ولكنني أتحسر على المال الضائع.
فتنظر إلى سجادة صغيرة معلقة بالجدار تعكس نقوشها قبة المسجد الأقصى وتهتف: اللهم فاشهد.
ثم ترنو إلى أمونة قائلة: أهو ضائع المال الذي يجبر الخاطر ويطعم الجائع ويسند العاجز ويبهج الطفل؟! - دليني على ثري أو ثرية ...
فتقاطعها: حسبك، حديثك ينغص علي الصفاء.
لكنها دائما ترجع إلى ذلك الحديث كما يرجع الحمار إلى حظيرته بلا مرشد. لذلك فهي لا تشك في أن مولد عزت كان صخرة تحطمت عليها أمواج الجشع، غير مولده الموازين والحسابات. وجاءته أم سيدة بالبخور السوداني الموصوف لتلك الأحوال وهي تقول: الأقارب عقارب!
وترضى عين عما تفعل صديقة العمر وتسألها: أتدرين ما هو سر السعادة في هذه الدنيا؟ - ربنا يسعدك دائما وأبدا. - عندما لا نأخذ من المال إلا ما يحفظ الحياة! •••
ويقول الراوي: إنه في ليلة القدر من رمضان زارتها أمونة، ساحبة بيدها صغيرتها إحسان ذات الأربعة الأعوام، وعندما جلستا في الفراندة عقب الإفطار، قالت لها عين برجاء: تجنبي ما يسبب لي الكدر.
अज्ञात पृष्ठ
واحتستا القهوة في سلام، ثم قالت أمونة بعذوبة: أريد أن أجرب حظي في ليلة القدر!
فدعت لها قائلة: فليهبك الله حظا سعيدا.
وراحت أمونة تنظر إلى القطط وهي تستكن في أركان الفراندة، وتمتمت ضاحكة: إنه بيت القطط. - إذا شبعت استرسلت في التسبيح. - أنت أدرى بلغتها.
ثم متسائلة في شيء من الارتباك: هل أجرب حظي؟
قالت عين ببراءة: عليك أن تنظري إلى السماء طيلة الوقت. - لكن حظي بين يديك أنت يا أختي. - حقا!
من خلال ما يشبه المجازفة: أختي ... ما رأيك في عزت وإحسان؟
تشاءمت عين لسبب خفي، ولكنها قالت: عزت ابني الصغير وإحسان بنتك الصغيرة. - ألا تفهمين قصدي؟ - من الأفضل أن تفصحي عنه. - إنه واضح كليلة القدر.
فقالت عين بجدية منذرة: هل عندك علم بما يحدث غدا؟ - لذلك يهمني جدا ما نستطيعه اليوم. - اليوم حقا؟ - نعم ... نكتب كتابهما! - يا للعجب! - نحن أحرار فيما نفعل!
كرهت عين الفكرة واستبشعتها. رأت فيها شراهة يجب أن تنبذ. اعتقدت أن أختها في حاجة ملحة إلى حمام بمطهر مركز. هتفت: لا يذكرني ذلك بخير أبدا. - إحسان بنت أختك. - أمونة ... يسعدني أن يختارها بنفسه ذات يوم. - إنها جميلة كما ترين. - لا أزوج طفلا لم يدخل الكتاب بعد. - يفعلون ذلك في الريف وهو مهد الحكماء. - لا يفعل ذلك إلا المجانين!
اندفعت بركة بغتة نحو الحديقة كأنما شمت صيدا، وساد الصمت منذرا بالشجن، وانبعث صوت أمونة متغيرا: أهي كلمتك الأخيرة لي؟
अज्ञात पृष्ठ
فقالت عين بجفاء: بكل تأكيد. - أنت ... أنت قاسية! - أسأل الله لك الشفاء.
فقالت بحدة: لست مريضة يا عين! - الله وحده يعلم.
فتساءلت أمونة بمرارة: ترى أينا المريض؟ - لسانك حصانك يا أمونة.
قامت بشدة وهي تقول: طول عمرك تكرهينني. - حقا؟ - وتحسدينني! - أحسدك؟! - رغم مالك الوفير تحسدينني!
فقالت وهي تنحي وجهها عنها: لا تستدعي الشيطان إلى قلبي.
فصاحت أمونة: إنه مقيم فيه!
حملت إحسان على كتفها وهي تجهش في البكاء، مضت تغادر المكان بلا سلام، تحول غضب عين إلى حزن، قالت بجزع: سأجدك في المرة القادمة في حال أفضل.
فجاءها صوتها قائلا: لن تريني ما حييت.
4
فتح كتاب الشيخ العزيزي بابه ورياح الخريف تحبو من مهدها الرطيب. عزمت عين على إرسال وحيدها إلى الشيخ. - ستجد في الكتاب التكريم ونور الله.
अज्ञात पृष्ठ
التكريم لأن الشيخ من رواد إحسانها الدائمين، ونور الله لأنه ينبثق أول ما ينبثق من الكتاب.
غير أن عزت تساءل في توجس: أليست الحديقة أفضل؟
فمسحت على رأسه براحتها وقالت: للرجولة أحكام.
وتذكر عزت جماعات الصبيان والبنات وهم يغادرون الكتاب في العصاري. لا تفصح وجوههم عن سعادة بما جاءوا منه، ولا رضا عن شيخه القزم المشوه. ورمقها بنظرة حائرة فقالت: يحب الكتاب الأولاد الصالحون، في الكتاب نتعلم، ولا احترام لإنسان بغير العلم، واحترام الشيخ واجب كاحترام الأم. إياك وأن تسول لك نفسك الضحك منه؛ فذلك حرام، والله لا يغفره لعبد.
إنه يتذكر الشيخ العزيزي، فصورته الغريبة ماثلة في كل ذاكرة، قزم مقوس الساقين أقعس الصدر، صغير القسمات كطفل، يتمايل في مشيته من جنب إلى جنب متوكئا على عصا قصيرة طولها ذراع أو دون ذلك، كأنه لعبة مما تعرض في الموالد، وهيهات أن ينسى أنه رآه في يوم ممطر وقد حمله فاعل خير على كتفه ليعبر به الطريق. - أوصيك بصفة خاصة باحترام الشيخ.
وكررت ذلك بصوت واضح؛ فشعر بنذير الفراق، وبالتوجس من تجربة مجهولة.
واستطردت وهي تحد من نظرة عينيها الجميلتين: واسلك مع البنات السلوك الذي يرضي الله!
فتخايلت لعينيه الخميلة تحت ستار الليل فتورد وجهه وتحرك رأسه ارتباكا، فتمتمت بلطف: عن الماضي قد قبل الله توبتك. •••
وحينما تلقى الشيخ العزيزي الخبر في حجرة الاستقبال - وهو يجلس على حافة مقعد مدلى الساقين فوق سطح الأرض بشبرين - تهلل وجهه وقال: طالما انتظرت هذا اليوم لعلي أرد جزءا من ألف جزء من جميلك.
لكن عزت حين تربع في الصف الأول - فوق الحصيرة - أمام سدة الشيخ بدا هذا شخصا آخر، لا رحب به ولا شجعه بابتسامة وكأنه لم يره ولم يسمع به. عجب أيضا للنظرة الثلجية التي تستقر في محجريه، والصرامة التي تكسو وجهه الصغير، على حين جلس الصغار والصغيرات في صمت تلفهم رهبة وتتحكم فيهم قوة مجهولة. أين اللعبة التي تتابعها الأعين في الطريق بعطف وسخرية؟ إنه الآن يتسلطن في مملكته، يمارس قوة غير محدودة، الجريدة منطرحة جنبه تهدد أيادي وأقدام المتمردين. أيقن عزت أنه أسير، بلا دفاع ولا امتياز، يسري عليه ما يسري على الآخرين، وأضمر ألا يتكرر حضوره مرة أخرى. ولمح سيدة في نهاية الصف، تلاقت عيناهما لحظة فيما يشبه ابتسامة ثم سرعان ما تجاهلته. ضايقه جو المساواة المخيم على المجلس، الجميع سواسية فوق حصيرة واحدة، تخلت عنه الامتيازات التي ينعم بها في أي مكان باعتباره ابن الست عين وربيب الدار الفاخرة. إنه وضع جديد لا يحتمل، ولعل أمه لا تدري عنه شيئا. ولمح لصق سيدة بنتا تماثلها في العمر لم يرها من قبل. شدت عينيه بقوة، لها وجه ثري مستدير وعينان سوداوان منعشتان؛ تركت في نفسه أثرا قويا وبهيجا لطف ألمه وأنساه حزنه. ترى في أي موقع من الحارة تعيش؟ هذه العصفورة التي أقصيت قسرا عن غصنها. إنها البنت التي خطفتها الغولة فغامر ابن السلطان بإنقاذها. ما أعذب صوتها وهي تردد وراء صوت الشيخ الرفيع
अज्ञात पृष्ठ
الحمد لله رب العالمين . على أي حال، فالكتاب ليس شرا كله، ولن يمسه الشيخ العزيزي بسوء. •••
وعندما جاء وقت الغداء جلس كالآخرين موجها وجهه للجدار. حل عقدة المنديل وبسطه وراح يقطع الرغيف، عند ذاك جاءه صوت عن يمينه مباشرة: ماذا عندك؟
رأى صبيا في مثل سنه، في عينيه ضيق ولكنهما مقبولتان، في فكيه قوة، وفي أنفه فطس، بدا بسيطا ومرحا. ساءه تطفله، ولكنه لم يجد بدا من إجابته: جبن أبيض وحلاوة طحينية. - عال، معي طعمية وسلطة طحينة. فلنأكل معا.
ولم ينتظر موافقته، فبسط منديله حتى تماست الحافتان، أشار إلى الطعمية بإغراء ويده تمتد إلى الجبن، ثم قدم نفسه قائلا: حمدون عجرمة.
فاضطر الآخر أن يقول: عزت عبد الباقي. - أنا عارف ... ابن الست عين!
استاء من أن يتردد اسم أمه مختلطا بالجبن والطعمية وسلطة الطحينة، لكنه لم يستثقل حمدون، وأعجبته نظافة جلبابه وطاقيته. وقال له حمدون: أنت غير جائع. - أشبع بسرعة.
فلم يرتح حمدون للإجابة، ولكنه التهم الطعام بصراحة. •••
وغادرا الكتاب معا. لم يفارقه حمدون، وسرعان ما أنس إليه. وقال له حمدون! - نلعب معا ونحفظ معا ونأكل معا ... هه؟
فحنى رأسه بالإيجاب، فقال الآخر: وقد يطلع لنا عفريت من القبو؛ فمن الأفضل أن نكون معا. - لا أقترب من القبو ليلا وأمي تحفظ القرآن. وإذا به يهتف فجأة «بدرية»، فتابع عينيه حتى وقعتا على «العصفورة». نظرت البنت نحوهما باسمة ثم اندفعت تجري، فسأله: تعرفها؟ - جارتنا ... بدرية المناويشي.
فأحب صداقته أكثر. •••
अज्ञात पृष्ठ
وتلقته عين بنظرة متفحصة ومشفقة، تمتمت: مباركة عليك رحلة الرجولة.
فقال بفتور: يا له من مكان ثقيل. - عليك أن تحبه، هو الذي يجعل منك رجلا محترما .
فقال بتأفف: جلست على الحصيرة كالآخرين. - كلنا أبناء آدم وحواء، والمجتهد هو الأفضل؛ لذلك وضعت في منديلك طعاما كأطعمة الآخرين، وطعامك الآن ينتظرك، لا تنفر من أحد.
فقال مجاراة لها: عرفت كثيرين. - حقا ... اذكر لي بعضهم. - حمدون عجرمة. - آه ... ولد يتيم يعيش مع خالته، وهي ست مستورة وطيبة. من أيضا؟
فصمت في حيرة ثم قال: هو فقط! - كثيرون، ولكنهم تمخضوا عن واحد فقط! وكم عدد البنات؟ - أربع. - جديدات عليك؟ - إلا واحدة. - سيدة؟ - نعم ... وعرفت اسم أخرى عند مناداتها؛ بدرية المناويشي. - آه ... بنت أم رمضان، لعلها آخر العنقود من آخر زوج، لقد تزوجت أمها خمس مرات أو أكثر.
فتساءل باهتمام: لها خمسة أزواج في وقت واحد؟
فضحكت عين وقالت: سوف تتعلم أن المرأة لا يكون لها إلا زوج واحد، ولكنها قد تتزوج من آخر إذا طلقت.
فسألها باهتمام متزايد: هل تتزوجين أنت أيضا من آخر؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني لا أريد ... والآن هلم كل لقمة تسند قلبك.
وقبيل المساء جاءت خادمة تعلن قدوم صبي يدعى حمدون عجرمة.
5
अज्ञात पृष्ठ
لم تكن حياته في الكتاب يسيرة، فتلقى كثيرا من الزجر ولكنه لم يجلد قط. عرف الشيخ العزيزي أنه لا يستطيع أن يتجاوز معه حدودا معينة. وتقدم عزت فوق جسر من العثرات، وربما أعانه وحمسه أحيانا نشاط حمدون الموفور، أصبحت صداقتهما حقيقة، وقد عرف مع الأيام جميع الصبيان، ولكن بقي حمدون الصديق الأوحد. ورحبت عين بحمدون، أعجبها منظره النظيف ورغبته المبكرة في الحفظ، ورجت أن يجد فيه عزت مشجعا على العمل. قالت: إن الولد ذكي ومحب للمذاكرة دون أن يدفعه أحد إلى ذلك. وتمنت له مستقبلا حسنا يعوضه عن يتمه، وأكثر من مرة قالت له: ربنا يفتح عليك، إذا واظبت على اجتهادك فلن تترك التعليم لتتعلم حرفة يدوية.
وجعلت تدعوه للغداء يوم الجمعة. وبسبب ذلك دعت خالته ست رمانة لزيارتها؛ فتوطدت بينهما علاقة طيبة. وكان زوجها تاجر أجهزة سرادقات يؤجرها في الأفراح والمآتم، ربحه لا بأس به، ولكن كان له من الأبناء عشرة، رغم ذلك عطفت ست رمانة على حمدون، وعاملته كأي ابن من أبنائها. وكان قد ورث عن أبيه قطعة أرض صغيرة تنفع عند الضرورة للبيع والانتفاع بثمنها. واعترفت ست رمانة أكثر من مرة قائلة: إني أحبه لاجتهاده ... يندر أن تجدي مجتهدا في سنه.
هكذا بشرت الصداقة بخير للطرفين ووهبتهما سعادة بريئة سابغة، وكصداقة الصبية لم تخل من نزاعات فارغة، مثل هزيمة تلحق بأحدهما في الحجلة أو السيجة، ولم يكن ابن الست عين ممن يقبلون الهزيمة بروح طيبة، ولكن لم تتعد الخلافات قطيعة ساعة، وسرعان ما يجيء التنازل من ناحية حمدون!
واللعب في الحارة كان تسلية لا مفر منها، ثم بات هدفا سعيدا عندما انضمت إليهما سيدة وبدرية، ولم يستهجن أحد ذلك طالما دار اللعب تحت الأعين وفي ضوء النهار، واستأثرت بدرية بإقبال الصبيين حتى شعرت سيدة بأنها تكملة عدد ليس إلا، لم ينفعها مرحها، وتوارى حظها مع دكنة بشرتها وأنفها المتكور الذي يعيد سيرة أنف الأم. انبهر عزت بوجه بدرية رغم حداثة سنه، وسبق قلبه سنه في الانفعال بعاطفة مبهمة تستقطر الأشواق من أرض خرافية لا وجود لها إلا في الخيال. ولكي يستأثر باهتمامها حكى لها عن داره، أثاثها ورياشها، عن الحديقة والفواكه والأزهار. وقالت سيدة: أنا أعرف ذلك كله.
فقال عزت: ولكنها لا تعرف.
وقالت بدرية: نحن نلعب في الحارة فقط.
وقال حمدون: وسيدة تدخل الدار مع أمها.
فقال عزت لبدرية: فلتزرنا أمك وأنت معها.
فقالت بدرية: أبي لا يسمح لأمي بالخروج.
وكانت سيدة تتودد إليه ما وسعها ذلك، ولكنه لم يكترث لها، وربما وردت على ذهنه ذكرى الخميلة، ولكنها ترد مقرونة بالألم والخوف والخجل، أما بدرية فإنه يتطلع إليها بخيال عجيب سعيد مرح، يعد بأفراح الدنيا والآخرة.
अज्ञात पृष्ठ
وقضى عامين في الكتاب، حظي فيهما بسعادة لا تتحقق إلا في دنيا من نسج الخيال والبراءة. •••
وعندما هبت رياح الخريف من مهدها الرطيب كعادتها في الأعوام السابقة، أذنت هذه المرة بفراق جديد، حاد وأليم، أنذر بإخراج الولد الثمل من جنته. اعترضه قرار جديد بالتوجه إلى المدرسة الابتدائية لأداء امتحان القبول، ولم يغره هذه المرة أن يجد حمدون في رفقته. أما بدرية وسيدة فقد غادرتا الكتاب، ومنعتا من اللعب في الحارة. فتر حماس عزت وخمدت روحه، نجح حمدون في امتحان القبول وسقط هو في الحساب، غير أن زيارة مباركة من أمه للمدرسة غيرت النتيجة وألحقته بالمدرسة بلا ترحاب من ناحيته ولا سرور. ولم تنقطع سيدة عن مجاله؛ فهي تزور الدار عادة بصحبة أمها، واعتاد منظرها أكثر وأكثر، فباتت دكنتها مألوفة، وتكويرة أنفها عادية، ومرحها محبوبا، وحديثها لا يخلو من تسلية، أما بدرية فلم يكن يراها إلا في النادر جدا من الأوقات، غالبا بصحبة أبيها، يسرق منها نظرة خاطفة، وتمضي هي جادة أكثر مما يحتمل عمرها، وكأنها لم تقاسمه عامين أفراح الحياة. وكان لديه من فرص العمل واللعب ما يشغله عنها، ولكنه لم يستطع أن يتحرر من ذكراها، ولا أن يمحو من ذاكرته تعلقه الفريد بوجهها الثري. •••
وبدا متعثرا في دراسته، تمضي الأيام ولا يحظى باستحسان واحد، لا يأنس إلى المدرسة، ويحن دائما إلى الحرية والحديقة. وذات يوم سمع تلميذا يقول وهو يومئ إليه: ما حاجته إلى التعليم وهو أغنى شخص في الحارة؟!
فعجب من إصرار أمه على تعذيبه، ولم يؤثر فيه تفوق حمدون إلا قليلا، وكان حمدون يشجعه على العمل، ولولا مواظبته على المذاكرة معه ما أصاب أي قدر من التقدم. وكان يقول له: عقلك ممتاز، ولكنك كسول.
فتساءل عزت باستهانة: أمن المهم أن أكون مجتهدا؟
فقالت عين وهي تتابع الحديث باهتمام: طبعا، ما أجمل الناجحين، العلم من الإيمان، وأنت من المؤمنين الصادقين.
أجل، كن محبا للعبادات ومغرما بالحكايات، ولكنه حزن قبل الأوان.
واستطردت أمه باسمة: عليك أن تزيد من المذاكرة وأن تزيد الطعام.
فقال حمدون مؤكدا: إنه نحيف جدا، في المدرسة يقولون إن والدته تنفق مالها على الفقراء، وإن الابن لا يجد ما يأكله!
فضحكت عين وقالت بلهجة متوعدة: العلم والطعام.
अज्ञात पृष्ठ
فقال حمدون: يشغل نفسه بالجنة والنار!
فقال عزت لنفسه: بالجنة والنار وبدرية. وهناك أمه التي تكون نسيج حياته وأحلامه وأفراحه ومخاوفه! إنها الصلة بينه وبين الله، والصلة بينه وبين الحياة، هي كل شيء، وهكذا ينظرون إليها في الحارة. وقد ألف منذ يقظته الأولى ذهابها وإيابها، مسيرتها المكللة بالجلال والحب تحت مظلتها، اجتماعها بالفقيرات في الحديقة، وتعلم أن يعتد ذلك عبادة من العبادات الرائعة. وعلى ضوء ما ترامى لأذنيه من تعليقات على نشاطها الكريم الموفور، سواء في المدرسة أو في غيرها، مضى ينظر إليها بعين جديدة، ويقارن، وهو لا يدري، بينها وبين الأخريات. لم تكن الثرية الوحيدة التي تفعل ذلك، حتى صدق حمدون وهو يقول له مرة: إنها أم الحارة وليست أمك وحدك.
ولكن من العجيب أن هذه القوة النادرة لا تنفعه في أشيائه الحميمة؛ فلا عون ينتظر منها على دروسه المعقدة، ولا فرح يأتي على يديها ليعيده إلى جنة بدرية المفقودة. إنها تداوي القلوب الجريحة وتتركه يعاني وحده، تتركه والأعوام تمر والكآبة لا تنقشع. •••
وذات يوم جاءه حمدون متألق البصر خفيف الحركة، ولسبب مجهول انقبض قلبه وتذكر بقوة وحزن بدرية المناويشي. جلسا في الفراندة والسماء تمج رذاذا يغسل الأوراق ويطارد العصافير، وراح حمدون يقول بحماس عجيب: دنيا ... دنيا لا مثيل لها.
فحدق إليه متسائلا، فقال الآخر: أمس اصطحبني زوج خالتي مع بعض أبنائه إلى الكلوب المصري. - المقهى! - بل المسرح، شاهدت مسرحية من البداية إلى النهاية.
ووصف له تفاصيل الرحلة بكل دقة؛ الدخول، الجلوس، الصالة، الستار، المسرح، الممثلين والممثلات، الحكاية، الغناء، كل شيء. - هناك تضحك وتطرب وتبكي أحيانا.
لم يستطع عزت أن يتخيل شيئا ذا بال، صورة الجنة أوضح في مخيلته، وكذلك صورة النار. وقال حمدون: سوف تراها يوما ما ... لكننا نستطيع أن نحاكيها ها هنا، في هذه الفراندة! - كيف؟! - سأحفظك ما يقال.
ودون تردد راح يقتبس المسرحية ويخلق الديكور بالوهم، ثم قال: أنت الآن فتاة تدعى جولييت، وأنا فتى اسمه روميو!
فقطب عزت متسائلا: ولم لا يكون العكس؟
فقال مطاوعا ومتجنبا إثارة غضبه أو عناده: ليكن.
अज्ञात पृष्ठ
ودار الحوار القصير كما تخيله حمدون، وكان يمثل ما وسعه ذلك، ولكنه لم يفلح في حمل عزت على التمثيل، تخيل عزت بدرية في دور جولييت. هذه هي الحكاية. ولكن أين صاحبة الدور الحقيقي؟!
وتابعت عين المنظر من شباك حجرتها فلم تفهم شيئا، وقالت لنفسها: إن الأطفال يجيئون إلى الدنيا بالأعاجيب، وتلت آية الكرسي وقلبها ينضح بالعطف على اليتيم. •••
وتغير حمدون تغيرا ملموسا ... فتنته بالمسرح لا تخمد أبدا ... ملأ بعض وقت فراغه بهواية جديدة هي القراءة ... بشيء من الصعوبة كان يقرأ ما تصل إليه يداه من إعلانات، مجلات، قصص بوليسية، واهتدى أخيرا إلى ألف ليلة وليلة. ومنه تعلق عزت بالقصص البوليسية، فلم يقرأ بدافع الحب وحده إلا القرآن والقصص البوليسية. وقال حمدون: ستكون العطلة الصيفية رائعة، سنمثل كل حكاية نقرؤها.
فقال عزت: لننقل المسرح إلى الحارة. - فكرة ... هل تضايقت أمك من اللعبة؟ - أبدا ... ولكن لعلنا نضم إلينا ممثلات!
فضحك حمدون وراح يمسح على حاجبيه البارزين ويقول: فكرة مستحيلة. - أليست بدرية جارتك! - ولكن بيني وبينها جدارا أقوى من جدار القبو العتيق.
ولكنه يراها، ربما كل يوم، ويستحق لذلك الحسد. •••
في ختام العام الرابع نجح كلاهما في الابتدائية. كان النجاح بالقياس إلى عزت معجزة. قدمت لهما الحلوى في الحديقة. في الثانية عشرة من العمر أعلن حمدون عن رغبته في أن يصير ممثلا ومؤلفا. ابتسم عزت ولم يصدق. وقالت عين: اختر عملا لا لعبة.
كان حماسه أقوى مما يتصوران. وسألت عين وحيدها: وأنت؟
مط بوزه في غير مبالاة. إنه يحب شيئين متنافرين؛ العبادة والسيادة. يعتز بأمه وبداره، ويهوى فؤاده الوجاهة. لم يكن متكبرا، ولكنه يضمر أن يكون خليفة أمه، ربما في الدار والحارة، أو في الدار وحدها! وتمتمت عين: أود أن أراك عظيما.
ولم يدر ما العظمة على وجه الدقة، ولكن فؤاده هفا إليها.
अज्ञात पृष्ठ
6
عهد المدرسة الثانوية كان عهدا جديدا. فتحت نوافذ لتيار من المعلومات الجديدة، ثم تدفق منها هواء دافئ يفتح الأكمام وينضج الحنايا، ونبت شخص جديد في حنايا عزت ... وحمدون أيضا ... فانقسمت أرنبة أنفه، وغلظ صوته، وتقلقل بالأشواق المبهمة. وترحمت عين على عم عبد الباقي، وقالت: إنه يحاكيه رغم أنه لم يعرفه. وقالت إنه من الآن فصاعدا ستهب النسائم محملة بالعبير والمخاوف. في ذلك العهد صار حمدون قارئا لا ريب فيه، متنوع القراءات، منقبا عن أي كلمة ذات علاقة بالمسرح، وانغمس عزت - في أوقات فراغه - في قراءة القرآن والقصص البوليسية.
وكاد يعتاد السلوان عن بدرية لولا لقاء عابر غزاه بقوة من جديد. كان يمضي لدى الغروب في العطفة نحو بيت حمدون، وكانت بدرية تعبر العطفة نحو بيت مقابل. تشجعت بقرب المسافة وغياب الأب، فخرجت في الفستان سافرة شبه أنثى ناضجة، بوجه أكثر ثراء ونقاء، وقامة ممشوقة، وضفيرتين مرسلتين حتى نهاية الظهر. كادا يتلاقيان في نقطة واحدة تحت مظلة الغروب، تبادلا نظرة باسمة بالذكريات المشتركة عامرة بالمودة، وسرعان ما همس: أهلا.
فهمست في حياء: أهلا.
وأسرعت في مشيتها متعثرة بالخطا فواحة بالشباب المبكر. وتوقف تحت بيت ست رمانة والمغيب يقتحمه بعمق فيتحول رويدا إلى شبح ... أراد الوقوف ليثوب إلى رشده ويستر توازنه وتنعقد أواصره بما حوله من جديد ... أدرك بوجدان جديد أنه قضي عليه بأن يحب بدرية إلى الأبد. وتبدى له الحب كالحياة نفسها في جاذبيته واستبداده، وتخلى عنه إحساسه العميق بالسيادة فشعر بأنه وحيد. ولم يكن يحب المكث طويلا في بيت حمدون لاكتظاظه بأهله؛ فسرعان ما غادراه معا. مضيا نحو الكلوب المصري، وفي الطريق قال عزت ليروح عن نفسه: رأيت بدرية وأنا ذاهب إليك.
فتمتم حمدون: كثيرا ما أراها.
فاستسلم لدفعة داخلية قائلا: إني أحبها.
فقال حمدون ضاحكا: مثلك تماما!
فتساءل عزت بانزعاج: تحبها أيضا؟ - أكنت تتوقع أن أكرهها؟ - كلا طبعا ... ولكني أعني بالحب شيئا آخر.
فقال الآخر بهدوء: ليس بهذا المعنى. - اصدقني القول! - متى عرفتني كاذبا؟
अज्ञात पृष्ठ
ارتاح نوعا ما، ولكن قلبه لم يعرف اليقين، وهو لم يرغب في شيء ويمتنع عليه باستثناء عالم البنات. لكن اليوم غير الأمس. إنه يحلق ذقنه صباحا بعد صباح؛ ربما ليعجل طلوع شعره، بيد أنه لا يدري كيف يبلغ رسالة حبه في حارته ذات القضبان العتيقة. إذا رفع رأسه ارتفعت معه مائة رأس متسائلة مستريبة، وما زال يرفل في غشاء الحياء والتقوى الذي نسجته يد أمه بأصابعها الطويلة الناصعة. والسهو عذر ولكنه لا يخلو من الحساب العسير، وأين المفر من عين الله الساهرة؟!
وقد صار من المترددين على المسرح بإغراء حمدون المتواصل. وبات حمدون يحلم بالتأليف ويحاوله سرا فلا يطلع عليه أحدا إلا عزت. وكم ود لو يغير مجرى حياته، ولكنه استمر في التعليم بهدف الاستقرار في وظيفة. عزت يواصل التعليم بدافع الكبرياء وإرضاء لأمه. •••
ولم تغفل الأم عما يغلي في داخله ... أشفقت من أن يزل، من أن يعصي الله جل جلاله، ورفضت أن تهرب من تحمل مسئوليتها أو أن تتركه وحده في مواجهة الشيطان، وتتشجع بالظلمة في الحديقة وهي تجالسه في أمسية من أماسي الربيع فتقول له: آن لي أن أعاملك كرجل.
فضحك ضحكة مقتضبة. أما هي ففكرت بشقيقتها أمونة ... أرادت أن تصالحها كثيرا ... أرسلت إليها أم سيدة ... زارتها بنفسها. أرجعتها إلى زياراتها السابقة، ولكن أمونة ظلت متحفظة ... عزمت عين على أن تصالحها بطريقة عملية ... قالت: عزت ... من أصول التقوى أن نصون أنفسنا بالزواج.
أضاءت لفظة الزواج الخميلة فتبدت بدرية منورة، وتمتم عزت بدهشة: الزواج! - نعم ... إنك رجل! - لم أحصل بعد على البكالوريا. - إنهم يتزوجون بلا شهادة.
فتساءل عزت ضاحكا: هل تستعينين بأم سيدة؟ - بل عندنا العروس، إحسان بنت خالتك.
إحسان جميلة، تميل إلى الامتلاء أكثر مما ينبغي؛ مما ينذر بأنها ستكون في حكم خالته أمونة، وهو لم يشعر نحوها بأي ميل حقيقي. قال بوضوح: لا.
فتساءلت باستياء: لماذا يا حضرة؟ ... البنت كاملة. - ربما، ولكن لا حيلة لنا في ذلك.
فسألته بأسف: ألا تعينني على استرضاء أختي؟ - ليس عن هذا السبيل. - هل تكره فكرة الزواج الآن؟
فقال بصراحة: الحق أني لا أكرهها.
अज्ञात पृष्ठ
فتساءلت باهتمام: هل عينك على عروس أخرى؟ - نعم.
فقالت بقلق: تحدث أمور من وراء ظهري، لم لم تصارحني من أول يوم؟ من؟ - بدرية المناويشي.
أخذت لحظات فانداح الصمت، ثم قالت بنبرة آسفة: لا. - لا؟! ... ألا تعجبك؟ - أمها مزواجة. - إني أتحدث عن البنت لا عن أمها. - البنت لأمها! - حكم غير معقول. - لا خلاف عليه. - لا أصدق ذلك! - أمك لا تخطئ أبدا.
فقال بشيء من الحدة: دعيني أجرب حظي.
فقالت بتوسل: لا تستهن برأي أمك.
فقال بضيق: لا أستطيع أن أستهين كذلك برغبتي. - إني شديدة الرغبة في تزويجك، ولكني حريصة على سعادتك.
فقال بقوة: لن أتزوج إلا بمحض رغبتي الخاصة.
فتأوهت قائلة: هذا صوت جديد يا عزت، أنت طبعا حر، ولكني غير راضية.
انقبض قلبه، لم يهن عليه إغضابها، وهل يستطيع أن يخطو خطوة بغير رضاها؟ قال: لولاك ما فكرت في الزواج الآن قط.
لم تنبس. ثقل عليه صمتها. أخذ يتعذب من الداخل. قال بحسم: لننس ما دار بيننا من حديث.
अज्ञात पृष्ठ
لبث وحده في الحديقة بعد ذهابها، شعر بأنها ما زالت قائمة في مكانها. أحس غضبا قاسيا يجتاحه نحوها. كان أشبه بالكراهية. غير أنها كراهية عابرة. سرعان ما أخلت موقعها لأسر الحب وذله. لكنه استطاع أن يراها بعين ناقدة كأنما استعارها من زفرات الصراصير. إنها تتحول إذا شاءت إلى صخرة صلدة، وينضب معين الرحمة من قلبها. هذه المرأة العجيبة التي تؤاخي الفقراء وتصادق القطط وتناصب ابنها العداء. وكم خوفته من الشياطين، وها هو أسمج شيطان يتجسد في عنادها! •••
وقال عين وهي تتنهد في حزن بالغ: إن الولد عنيد، عنيد مثل أبيه ومثل أمه أيضا. وصممت ألا تبيعه وهو جوهرة حياتها. هو أيضا أحمق مثل أبيه. ولولا أن عم عبد الباقي أذعن في النهاية إلى مشيئتها لضاع مثل ذرة غبار. أجل إنه يحب البنت، والبنت جميلة حقا، ولكن ما قيمة الحب المترع بالضلال؟ والحب يحرره الزواج، وعند ذلك لا يجد بين يديه إلا امرأة تحلم برجل آخر. هكذا عاشت أمها متنقلة من رجل إلى آخر. إني مسئولة عنه اليوم، غدا يستقل عني ويرتكب حماقاته.
واستدعت أم سيدة وسألتها بجفاء: ماذا تعرفين عن عزت وبدرية؟
فذهلت المرأة وتساءلت بدورها: ماذا عن عزت وبدرية؟!
فهتفت بتحذير : إياك والمكر. - معاذ الله. - ماذا تعرفين إذن؟ - أستغفر الله العظيم. - لا يتحرك قلب في حارتنا إلا وأنت معه في نبضه!
فقالت بحرارة: لا تهمني الإشاعات. - تهمني أنا.
فنفخت أم سيدة وقالت بصوت منخفض: يتحدثون عن حب، إنهم كما تعلمين يصنعون من الحبة قبة. - يتحدثون عن حبه لها؟ - أجل. - وماذا يقولون عنها؟ - لا شيء، أنت تعرفين أباها. - وكيف يثبتون صدق رأيهم؟ - كلام فارغ، لا يقوم على أساس، نظرة عابرة مثلا.
فقالت بأسى: قد يقود ذلك إلى فضائح، اصدقيني يا أم سيدة، هل تقابلا ولو مرة واحدة؟ - أستغفر الله ... البنت تعيش في ظل أب صارم. - هل عرفت أمها؟ - طبعا. - ما رأيك فيها؟ - ليس بالرأي الحسن. - هل علمت بما يشاع عن ابني؟ - لا أستبعد ذلك. - والأب؟ - مستحيل. - هل حدثتك أم بدرية بهذا الشأن؟ - كلا، ولكنها طلبت مني البحث عن عريس مناسب، وألمحت إلى سي عزت وعلاقتي الوثيقة بوالدته. ولما كنت على علم برأيك فيها فقد اعتذرت بحجة أن سي عزت ما زال دون سن الزواج.
واقترحت حمادة الأفندي. - وماذا كان رأيها؟ - لم يملأ عينيها.
فقالت عين ساخرة: طبعا، ما دامت تحلم بالعلالي.
अज्ञात पृष्ठ