ولقد أصيب كونت في سنواته الأخيرة بما يشبه مرض البارانويا
2
وكشفت كتاباته الأخيرة عن قدر من اختلال التوازن الانفعالي أدى، لسوء الحظ، إلى إلقاء ظل من الغموض على كتاباته المبكرة الجلية. ولقد كان ذهن كونت، رغم كل مظاهر العظمة التي أضفاها على ذاته، من نتاج عصره، وكانت فلسفته الوضعية تمثل دون شك إحدى المعالم الرئيسية في تفكير القرن التاسع عشر. كما أنه كان أكثر بكثير من مجرد داعية محدود. الأفق للعلم؛ فقد كان يعتقد بوجوب احتلال المنهج العلمي مكان الصدارة في ميدان المعرفة، ولكنه لم يتصور لحظة واحدة أن اكتساب المعلومات العلمية هو الغاية الوحيدة للحياة البشرية. وكان يؤمن بوحدة العلم، ولكن بمعنى أن مناهج البحث العلمي واحدة فقط، ولم يكن ضمن برنامجه، من حيث هو مفكر وضعي، أن ينزل بالإنسان إلى مرتبة الشيء المادي فحسب. وفضلا عن ذلك فإنا لا نضطر في حالة كونت إلى أن نتردد لحظة لكي نفهم ما يقوله، مثلما نفعل في حالة فشته وهيجل. فهو في معظم الأحيان يتحدث حديثا مباشرا واضحا، بأقل قدر ممكن من الغموض، ولقد كانت له أخطاء خطيرة، غير أن من الممكن على الأقل تحديد موضعها. وبالاختصار فسوف يكتشف كل قارئ نزيه في أوجست كونت مفكرا يتسم بقدر كبير من العمق والأصالة، كان، مع كل أخطائه، هو الممهد لكثير من الاتجاهات التي ما زالت في عنفوان نشاطها بين الفلسفات التجريبية والطبيعية في عصرنا هذا. ولقد كان معظم مؤرخي فلسفة القرن التاسع عشر متجنين عليه، وإنه لمن دواعي اغتباطي، أنني حاولت، في هذه الصفحات القلائل، رد حقه إليه.
والنص التالي مقتطف من الفصل الأول من المجلد الأول من كتاب (فلسفة أوجست كونت الوضعية)،
3 ⋆
وفي هذا النص يشرح كونت هدف فلسفته، ويوضح طبيعة الفلسفة الوضعية وأهميتها. «إن الإيضاح العام لأي مذهب فلسفي قد يكون عرضا موجزا لمذهب يزمع وضعه، أو تلخيصا لمذهب موضوع بالفعل. وإذا كانت قيمة الأخير أعظم، فإن للأول مع ذلك قيمته، من حيث إنه يوضح خصائص الموضوع الذي سيعالج منذ البداية. ومما له أهمية خاصة، في حالة كهذه الحالة التي تقترح فيها دراسة موضوع متشعب لم تتضح معالمه قبل الآن، أن يحدد ميدان البحث بكل دقة ممكنة؛ ولهذا السبب سوف أعرض لمحة عن الدواعي التي أدت إلى قيام هذا البحث، والتي سوف تعرض خلاله بإسهاب تام.
ولكي نفهم القيمة الحقيقية للفلسفة الوضعية وطابعها، ينبغي علينا أن نلقي نظرة عامة موجزة على التطور التدريجي للذهن البشري، منظورا إليه من حيث هو كل؛ إذ لا يمكن فهم أية فكرة إلا من خلال تاريخها.
قانون التقدم البشري : تؤدي دراسة تطور العقل البشري في جميع الاتجاهات وفي كل العصور إلى كشف قانون أساسي هام، يخضع له هذا التطور بالضرورة، وتثبته، على أساس متين، وقائع تركيبنا وتجربتنا التاريخية. هذا القانون هو أن كلا من مفاهيمنا الرئيسية، وكل فرع لمعرفتنا، يمر على التوالي بثلاثة ظروف نظرية مختلفة؛ اللاهوتية، أو الخرافية، والميتافيزيقية أو التجريدية، والعلمية أو الوضعية. وبعبارة أخرى فالعقل البشري، بحكم طبيعته، يستخدم في تقدمه ثلاثة مناهج للتفلسف، يختلف طابعها اختلافا كبيرا، بل تتعارض تعارضا أساسيا؛ هي المنهج اللاهوتي، والميتافيزيقي، والوضعي. ومن هنا تظهر ثلاث فلسفات، أو ثلاثة نسق عامة من المفاهيم حول مجموعات الظواهر، كل منها يستبعد الآخرين؛ أولها هو نقطة البداية الضرورية للذهن البشري، وثالثها هو الحالة الثابتة المستقرة، أما الثاني فحالة انتقالية فحسب.
المرحلة الأولى : في الحالة اللاهوتية يفترض الذهن البشري، في بحثه عن الطبيعة الأساسية الأشياء، والعلل الأولى والغائية (أي أصلها والغرض منها)، أن كل الظواهر ناتجة عن الفعل المباشر لكائنات فوق الطبيعة.
المرحلة الثانية : وفي المرحلة الميتافيزيقية، التي لا تعدو أن تكون تعديلا للأولى، يفترض الذهن، بدلا من الكائنات فوق الطبيعة، قوى مجردة، وكيانات فعلية (أي تجريدات مشخصة) كامنة في كل الموجودات، وقادرة على إحداث جميع الظواهر. وليس ما يسمى بتفسير الظواهر في هذه المرحلة سوى إحالة كل منها إلى كيانه الخاص به.
अज्ञात पृष्ठ