أرتور شوبنهور (1788-1860م)
يصعب على المرء، وهو يشق طريقه بصعوبة خلال مؤلفات هيجل المعقدة، أن يتجنب الشعور بأن هيجل يعد نفسه، في تواضع محمود، مجرد وسيط شاء «المطلق» ذاته، بمحض إرادته، أن يتحدث من خلاله. ومن هنا فإن المرء يتنفس الصعداء عندما ينتقل أخيرا إلى كتابات عدوه اللدود شوبنهور، الذي يشعر المرء على التو بأن فلسفته إن هي إلا فكرة شديدة التواضع لكائن بشري واحد عن عالم لم يصنعه قط، ولا يعجب به إلا قليلا.
ولقد كانت شخصية شوبنهور عكس الشخصية الوديعة الطيبة تماما؛ ففي الوقت الذي كان فيه مدرسا شابا في جامعة برلين، يتميز بقدر كبير من الصلف والاعتزاز بالنفس، اختار أن يحاضر في نفس الساعة التي كان هيجل العظيم يحاضر فيها، وهو اختيار له مغزاه. وغني عن البيان أن قاعة محاضراته كانت خاوية. ولقد نبذته أمه، فكان من الطبيعي أن يغدو كارها للنساء. ولقد كان شوبنهور ميالا إلى المتع الحسية ولكن بحرص شديد؛ فكان يتعاطى لذاته بجرعات صغيرة على الدوام، غير أن الوسيلة الوحيدة التي اتخذها سبيلا إلى الشهرة من حيث هو إنسان، هي أن يصبح واحدا من أكبر «الكارهين» في العالم. ولهذا كان من المعقول ألا يعد، بوجه عام، واحدا من أبطال الثقافة في القرن التاسع عشر. غير أن ثمة شيئا محببا إلى النفس لدى هذا الأعزب العجوز الشاذ الطبع، المنطوي على ذاته؛ ففي تشاؤمه صدق وإخلاص. كما أن هذا التشاؤم لا يقتصر عليه وحده؛ فشوبنهور، كالشاعر الإيطالي ليوباردي،
1
يمثل ذلك الضجر من العالم والشعور بالعزلة اللذين ينطوي عليهما معظم إنتاج الحركة الرومانتيكية، واللذين لا يصعب الاهتداء إليهما حتى لدى أصحاب المذاهب التي تعد رسميا متفائلة مثل هيجل. غير أن شوبنهور رفض في إصرار أن يستخدم الدعائم الأيديولوجية التي استخدمها معظم معاصريه؛ فهو مثلا متحرر تماما من الهوس القومي الذي انتاب فشته وهيجل، كما أن كتاباته ليس فيها أثر لأسلوبهما الخطابي الممل في إعلاء الذات. وهو لا يتخذ مواقف رسمية، ولا يسمح لنفسه أبدا أن يستخدم ناطقا بلسان روح العصر. ففلسفته تبدو آخر الأمر نوعا من «الثيوديسية»
2
المعكوسة، يسعى فيها إلى تبرير اعتقاده بأن العالم شرير في أساسه، وأن المهرب الوحيد للناس العاديين إنما يكون في عالم التأمل المنزه عن الغرض، غير أن ما يطرب الذهن أن يقرأ لمعاصر شاب لهيجل يجسر على أن يسمي الألم شقاء، ولا يجد نفسه مضطرا إلى النظر إلى التاريخ البشري على أنه مسار محتوم نحو التقدم. وإن ثقافة شوبنهور وإحساسه بالتناسق، ونزعته الدنيوية الغريزية وذكاءه، ورشاقة أسلوبه الأدبي، كل هذا يذكر المرء بقوة بعصر التنوير.
ولقد لمح شوبنهور على التو، بذهنه الثاقب كعادته، الدلالة الأيديولوجية الأساسية لفلسفتي هيجل وفشته. وها هي ذي الكلمات التي يستخدمها في التعبير عن الأهمية السياسية والاجتماعية لمذهب هيجل: «لقد تعين على الفلسفة، التي استعادت سمعتها بفضل كانت ... أن تغدو سراعا أداة تلعب بها المصالح، مصالح الدولة من أعلى، والمصالح الشخصية من أسفل ... وعلى العكس من جميع تلك المظاهر والتأكيدات الجادة، لم تكن القوى الدافعة لتلك الحركة أفكارا، بل كانت بالفعل أغراضا حقيقية إلى أبعد حد؛ أي مصالح شخصية، ورسمية، وكنسية، وسياسية، وبالاختصار، مصالح مادية. فالمصالح الجزئية تهز بعنف أقلام الكثيرين من محبي الحكمة الخالصة ... ولا جدال في أن الحقيقة هي آخر ما يجول بخاطرهم ... فالفلسفة تستغل استغلالا سيئا، من جانب الدولة بوصفها أداة، ومن الجانب الآخر بوصفها وسيلة للكسب. وإذن، فمن ذا الذي يؤمن فعلا بأن الحقيقة بدورها ستظهر إلى النور، بوصفها مجرد ناتج عرضي؟» والحق أنه لو كان كارل ماركس قد فهم تماما اتجاه نقد شوبنهور، بدلا من أن يحاول أن يقلب الديالكتيك الهيجلي رأسا على عقب، كان من الجائز جدا أن يطرأ تغير أساسي على تاريخ البشر خلال الأعوام المائة الأخيرة.
3
ولقد كان من أسباب كراهية شوبنهور لفشته وهيجل اعتقاده أنهما قد شوها ما هو صحيح وعميق في فلسفة كانت؛ فشوبنهور كان واحدا من أوائل المجموعة الكبيرة من الفلاسفة الذين نادوا، في عصر ساد فيه المذهب الهيجلي بالشعار «عودا إلى كانت!» واستخدموه في الاحتجاج على الاتجاهات السائدة؛ وهذا يعني في حالة شوبنهور، أنه يعد نفسه قبل كل شيء فيلسوفا نقديا ينبغي أن ينقد العقل أولا قبل أن يستخدمه فلسفيا. والحق أن شوبنهور وإن لم يكن قد اشتهر بفضل مساهماته في نظرية المعرفة، فإن كتابه الأشهر «العالم إرادة وتمثيلا» يبدأ، لا على نحو توكيدي ببيان مبادئ ميتافيزيقية، بل بتقدير لطبيعة الذهن وحدوده. ويعتقد شوبنهور، مثل كانت، أن الذهن عاجز عن معرفة كنه الأشياء في ذاتها. فهو يرى أن أفكارنا لا توصلنا إلى أي عالم يتجاوز نطاق مدركاتنا الحسية. والواقع أن شوبنهور يقترب كثيرا من مذهب لوك التجريبي؛ إذ يصر على أن يستخدم كل التصورات مما يوجد في التجربة. ومع ذلك فهو يرى أننا نستطيع الوصول بطريقة أخرى، غير عقلية، إلى حقيقة تتيحها لنا الإرادة. ونستطيع أن ندرك مدى ابتعاده عن كانت في هذا الصدد إذا تأملنا الفارق بين تفسير كل منهما لهذا التصور. فإلى كانت ترجع بلا شك، من الوجهة التاريخية، تلك الفلسفات الإرادية التي طالما تردد ظهورها طوال القرن التاسع عشر. غير أنه نظر إلى الإرادة أساسا من خلال الأخلاق. أما عند شوبنهور فالإرادة هي المقولة الميتافيزيقية الرئيسية، وهي أصل كل ما نسميه ب «الحقيقي». فهو يرى أننا لا نحقق أنفسنا بوصفنا كائنات موجودة إلا في أفعالنا الإرادية، ولا نشعر بالعالم الحقيقي على أنه أكثر من نسق من الأفكار المترابطة إلا لشعورنا بأنفسنا من حيث نحن نريد شيئا.
अज्ञात पृष्ठ