إن الاهتمام الموضوعي ينصب على «ما» يقال، والاهتمام الذاتي ينصب على «كيف» يقال هذا. وهذا التمييز يسري حتى في العالم الحسي، ويجد تعبيرا محددا عنه في المبدأ القائل إن ما هو صحيح في ذاته قد يغدو باطلا إذا صدر عن هذا الشخص أو ذاك. وفي عصرنا هذا، تغدو لهذا التمييز أهمية خاصة إذ إننا إذا شئنا التعبير في جملة واحدة عن الفرق بين العصور القديمة وعصرنا، كان علينا بلا شك أن نقول: «في العصور القديمة كان فرد هنا وهناك هو وحده الذي يعرف الحقيقة، أما الآن فالكل يعرفونها، إلا أن امتلاكها في باطن النفس يتناسب عكسيا مع مدى انتشارها.»
10 ⋆
فمن الوجهة الحسية تكون الطريقة الكوميدية هي أفضل طريقة لتصور التناقض الذي ينطوي عليه تحول الحقيقة إلى بطلان إذا ما صدرت عن هذا الشخص أو ذاك، أما في المجال الأخلاقي الديني، فإن الاهتمام ينصب ثانية على «الكيف». ولكن ينبغي ألا يفهم هذا على أنه يشير إلى المسلك الخارجي أو التعبير أو ما شابه ذلك، وإنما هو يشير إلى العلاقة القائمة بين الفرد الموجود، في وجوده الخاص، وبين محتوى قوله؛ فالاهتمام لا ينصب من الوجهة الموضوعية إلا على محتوى الفكر، بينما هو ينصب من الوجهة الذاتية على الصدى الباطن. وهذا «الكيف» الباطن يصبح، عندما يبلغ أقصى مداه، الشوق إلى اللامتناهي، والشوق إلى اللامتناهي هو الحقيقة، غير أن الشوق إلى اللامتناهي هو بعينه الذاتية، وبهذا تصبح الذاتية هي الحقيقة. فمن الوجهة الموضوعية لا يوجد عزم لا متناه، ومن هنا فمن الملائم موضوعيا القضاء على الفرق بين الخير والشر، ومعه مبدأ التناقض، وكذلك الفارق اللامتناهي بين الصحيح والباطن، أما هذا العزم فلا وجود له إلا في الذاتية؛ ولهذا كان البحث عن الموضوعية وقوعا في الخطأ؛ فالشوق إلى اللامتناهي، لا محتواه، هو العامل الحاسم؛ إذ إن محتواه هو ذاته تماما. وعلى هذا النحو تكون الذاتية، و«الكيف» الذاتي، هي قوام الحقيقة.
غير أن «الكيف» الذي يرجع تأكيده ذاتيا على هذا النحو إلى أن الذات فرد موجود، يخضع أيضا لديالكتيك فيما يتعلق بالزمان؛ ففي لحظة القرار المنفعلة، عندما ينحرف الطريق بعيدا عن المعرفة الموضوعية يبدو كأن القرار اللانهائي قد تحقق على هذا النحو، ولكن الفرد الموجود، في الوقت ذاته، يجد نفسه في عالم الزمان، ويتحول «الكيف» الذاتي، إلى «توق»
striving ، وهو «توق» يتلقى قوته الدافعة وتجدده الدائم من الشوق الحاسم إلى اللامتناهي، ولكنه يظل مع ذلك «توقا».
وعندما تصبح الذاتية هي الحقيقة، ينبغي أن يتضمن تحديدها في شكل تصورات تعبيرا عن تضادها مع الموضوعية، وعلامة على المفرق الذي ينحرف فيه الطريق، ويكون هذا التعبير في الآن ذاته دليلا على توتر الباطنية الذاتية. وها هو ذا تعريف الحقيقة الذي نعنيه: إن اللايقين الموضوعي، الذي يتمسك به في عملية تملك لأكثر المشاعر الباطنة انفعالا، هو الحقيقة، وهو أسمى حقيقة يمكن أن يصل إليها الفرد الموجود؛ ففي النقطة التي ينحرف فيها الطريق (ومن المستحيل تحديد هذه النقطة موضوعيا؛ إذ إن المسألة متعلقة بالذاتية) تعطل المعرفة الموضوعية، فلا يكون لدى الذات، من الوجهة الموضوعية، سوى اللايقين، غير أن هذا هو بعينه ما يزيد توتر هذا الانفعال اللانهائي الذي يكون باطنيته؛ فالحقيقة هي بعينها تلك المخاطرة التي تختار اللايقين الموضوعي بانفعال الشوق إلى اللامتناهي. فأنا أتأمل نظام الطبيعة آملا الاهتداء إلى الله، فأرى القدرة على كل شيء والحكمة الكاملة، ولكني أرى أيضا أشياء أخرى كثيرة تعكر ذهني وتثير قلقي. ومحصل هذا كله هو اللايقين الموضوعي، غير أن هذا هو بعينه السبب الذي تصبح الباطنية من أجله بهذا القدر من الشدة؛ إذ إنها تضم هذا اللايقين الموضوعي بكل انفعالها المشتاق إلى اللامتناهي. أما في حالة القضية الرياضية فإن الموضوعية تكون موجودة، غير أن حقيقة مثل هذه القضية تغدو لهذا السبب حقيقة غير مكترثة
indifferent .
ولكن التعريف السابق للحقيقة هو تعبير معادل عن الإيمان؛ فلا إيمان بلا مخاطرة، وما الإيمان إلا التناقض بين الشوق اللامتناهي في باطنية الفرد وبين اللايقين، ولو كنت قادرا على إدراك الله موضوعيا، لما احتجت إلى الإيمان، ولكن لا بد لي من الإيمان لأنني بالفعل لا أستطيع إدراكه موضوعيا. وإذا شئت أن أحتفظ بإيماني فعلي أن أحرص دائما على التمسك باللايقين الموضوعي، حتى أظل في المياه العميقة، التي يزيد عمقها على سبعين ألف فرسخ، محتفظا بإيماني. •••
القسم الرابع: المفكر الذاتي؛ رسالته، وصورته، وأسلوبه. إذا ما استطاعت رحلة في عالم الفكر الخالص أن تقرر إن كان الشخص مفكرا أم لا، فإن المفكر الذاتي يستبعد آليا من الحساب. ولكن في استبعاده هذا استبعادا لكل مشكلة وجودية أيضا بحيث تطلق النتائج الأليمة لهذا صيحات تحذير خافتة تمتزج بصيحات التهليل التي استقبل بها الفكر المجرد الحديث «المذهب».
11
अज्ञात पृष्ठ