6
والأخلاق إلى الدين. وبالاختصار فكيركجورد لا يهتم بذلك النوع من التطور العقلي الذي يصفه كونت في نظرية المراحل الثلاث، وإنما يهتم بمسائل القيمة ومشكلتي معرفة الذات والعلاء على الذات.
وليس هدفي هنا أن ألمح إلى أن من السهل التوفيق بين وضعية كونت ووجودية كيركجورد، وإنما أقول إن التقابل بينهما لا يمكن أن يوصف عن حق بأنه التقابل بين العلم والدين؛ فكيركجورد لم يكن يدخل مع العلم في منازعات شديدة، طالما أن هذا يظل ملتزما مكانه بوصفه نظاما ونسقا فكريا، كما أن كونت لم يدخل مع الدين في منازعات، طالما أنه يترك مجال المعرفة البشرية للعلم. وفضلا عن ذلك، فإن اشتراكهما في معارضة اللاهوت والميتافيزيقا العقليتين، وفي الاعتقاد بأن مسائل الوجود لا يمكن أن تحل بالعقل وحده، يكشف عن تقارب تاريخي عميق يحسن بالوضعيين والوجوديين المحدثين أن يتدبروا أمره ؛ فقد يساعد الاعتراف بهذا التقارب، مع كل ما بينهما من اختلاف في الهدف المنهجي، على تضييق الثغرة التي تبدو سحيقة بين الفلسفة التحليلية المعاصرة في إنجلترا والولايات المتحدة وبين الميتافيزيقا الوجودية في فرنسا وألمانيا.
ولم ينظر كيركجورد إلى تقدم الإنسان الروحي على أنه مظهر ضروري للتطور التاريخي الذاتي للروح المطلقة، كما فعل هيجل، بل رأى فيه تطورا شخصيا حرا تماما، يجوز للمرء أن يمر به أو لا يمر، حسبما يشاء. فنظرة هيجل إلى الحرية باطلة تماما، من وجهة نظر كيركجورد؛ إذ ينبغي على كل شخص في رأيه أن يقرر لنفسه إن كان سيرتقي من مجال التأمل الحسي
aesthetic
إلى مجال المسئولية الأخلاقية والفعل الأخلاقي، ثم يرقى من هذا المجال الأخير إلى مرتبة الإيمان الديني. غير أن ما يدعو إليه كيركجورد، كما أفهمه، ليس تصوفا؛ فمرحلة الحياة الدينية التي يؤكدها ليست اتحادا صوفيا بالله أو تأملا صوفيا له، وإنما هي إيمان وعقيدة إيجابية. فالله عنده يظل عاليا تماما، وهو يعز على الحدس مثلما يعز على الفهم النظري أو العقل. وعلى هذا النحو يتبدى لنا كيركجورد سائرا في الطريق الرئيسي للبروتستانتية اللوثرية. وعلى هذا النحو أيضا يتبدى لنا ابنا بارا لعصر الأيديولوجية، الذي لم يكن عصر أمل، وإنما عصر قرار وتأكيد وإيمان.
ولنختم حديثنا بهذه الكلمة الأخيرة: فكيركجورد، مثل نيتشه، ينكر أية إمكانية للحل الجماعي أو الاجتماعي للمشاكل الروحية للحياة البشرية؛ ف «الطريق» الذي يدعو إليه طريق منعزل، متفرد، ينبغي أن يختاره كل إنسان ويسير فيه بنفسه. وهو أيضا يرفض المثل الأعلى الإنساني النفعي للخير المشترك الذي يمكن تحقيقه إلى حد ما بالبحث العقلي والعمل الاجتماعي المشترك، وفي هذا يشترك مع نيتشه، وإن يكن الهدف مختلفا إلى حد ما. وإنما ينحصر الفرق بينهما في أن كيركجورد قد فقد تماما تلك الثقة التي لم يفقدها نيتشه مثله، في المثل الأعلى لمملكة أرضية يتحقق فيها التطور الذاتي للإنسان في هذا العالم؛ فهو يدعو الناس من وجهة نظره الخاصة، إلى الرجوع إلى الإيمان المفقود بإله آبائهم ، غير أن هذا إيمان لا شأن له، من حيث مقصده على الأقل، بالمسيحية التاريخية وبكنائسها، البروتستانتية منها والكاثوليكية. ولكن ما هو «معنى» ذلك بالفعل؟
إن المختارات الآتية مأخوذة من كتاب ربما كان أهم مؤلفات كيركجورد الفلسفية، وهو قطعا أكثرها اتساقا، وأعني به «حاشية ختامية غير علمية
Concluding Unscientific
».
अज्ञात पृष्ठ