فوقع كلامها وقع السهم في قلبه فنهض يحرق أسنانه وقال: «لقد قتلتني بعنادك، فلا تحسبيني عاجزا عن إرغامك؟ وارجعي إلى صوابك وفكري فيما عرضته عليك من أسباب السعادة ولا تعملي عمل أهل الجهالة، واعلمي أنك وما تملكين في قبضة يدي. فإذا أطعتني كنت أنا وما أملك في قبضة يدك!»
فهاج غضبها ودبت الحمية في عروقها وحدثتها نفسها بأن تزيده تأنيبا، لكنها أمسكت لعلمها أنها لا تقوى على مناوأته وهو ملك وعنده الجند والعوان، وبيده عهد أبيها بالوصاية المطلقة عليها، فلا ينصرها عليه حاكم ولا ينجيها منه سلطان، إلا إذا كان في دار الخلافة فربما استعانت عليه بالخليفة فينصفها.
فرأت من الحكمة أن تستعين عليه بالتعقل والتدبير، فتمالكت جأشها بما فطرت عليه من قوة الإرادة وقالت بصوت خافت: «سمعتك تستمهلني ريثما أفكر فيما عرضته علي، وأنا أمهلك لتفكر فيما قلته لك، ونرى بعد ذلك ما يكون ... وسأكتم ما بدا منك وأبذل جهدي في نسيانه حتى يكون مكتوما عني أيضا؛ لأني أضن بصديق أبي ووصيه أن يقال عنه ما قد يقال عنك لو علم الناس أقوالك. فهل تقبل ما أقوله لك؟ وإذا أبيت إلا الطيش فأنا أولى بالطيش منك ولا تحسبني فتاة ضعيفة.»
فأحس الأفشين بعظمة تلك الفتاة، ولم يعد يقوى على النظر في عينيها، كأن الغضب زاد كهربائيتهما فتطاير منهما الشرر. ووقع كلامها على رأسه كالصاعقة وقال: «ما أنت فتاة ضعيفة ولا أنا من أهل الطيش، ولكنك ترين ما يرى سائر الناس أن الحب مقصور على الشبان، وأنا أريك رأي العين أن الكهول أشد هياما. إن بين جنبي قلبا يضحي بالملك وبالحياة في سبيل محبوبه، فهل يفعل الشبان ذلك؟ وهم إنما يحبون عن خفة وجهالة لا يثبتون في الحب ولا يرعون زمام المحبوب. أما وقد استمهلتني فها أنا ذا أجيب طلبك راجيا أن ترجعي إلى رشدك، وأيام الحزن على صديقي أبيك لم تنقض بعد، فنحن الآن في أوائلها، ولعلي لا يخيب ظني بعد انقضاء أجل الحداد، وبعد أن تتحققي صفاء نيتي فيما أرجوه لك من الخير في دنياك، فأعملي فكرك على مهل.»
فأغضت عن طويل شرحه في بث عواطفه وآماله. وقالت بصوت هادئ وجأش رابط: «بقيت لي كلمة أحب أن تسمعها بوصفك وصيي الأمين، هل قمت بحق الوصية فدبرت شئون القصر وأهله؟»
قال: «فعلت كل شيء؛ فالزراع عاملون في الحقول، والقيم يدير شئون القصر، وأنا أحرص على مالك منك.» ومد يده والعقد لا يزال فيها وقال: «والعقد ألا تقبلينه؟ خذيه إذا شئت.»
فحولت وجهها عنه مشمئزة وقالت: «لا أريد قبول شيء يذكرني بهذا الاجتماع، ولو استطعت أن أجرد هذه القاعة من فراشها وأثاثها لفعلت حتى لا أرى شيئا شهد هذا الموقف أو سمع هذا الكلام. والآن اسمح لي أن أشكر لك عنايتك بشئون التركة، وذلك ما كنت أرجوه من الأفشين صديق أبي الأمين على أهله. وأخيرا هل لي أن أعرف لماذا حرمتم أخي سامان إرثه؟»
فأحس الأفشين عند سماع أقوالها أنه يتصاغر أمامها، وأنها هي تعظم وتعلو حتى كاد يتلعثم لسانه وأغلق عليه. وإنما غلبته على بسالته وسلطانه بالعفة وأدب النفس، فتجلد وقال: «إنك تسألينني سؤال القاصر لولي أمره وأنا مكلف أن أكتم السبب، فلو سألتني سؤال الحبيب لمحبه لأطلعتك على كل شيء.»
قالت: «اعمل بالوصية ودع الحب للمحبين.»
فدهش الأفشين ولم يزدد إلا هياما بها، ولكنه تهيب الكلام معها، فسكت ونهض مستأذنا في الانصراف. ثم خرج وقد غلب على أمره وعلم أنه لن ينال رضاها، وإنما أطاعها وقبل التأجيل فرارا من الفشل.
अज्ञात पृष्ठ