قال: «لا يخلو أن يكون ذلك بعض السبب، ولكن السبب الأكبر أن دولة المسلمين هذه عربية الأصل كما تعلم، ولما نهض المسلمون للفتح كان الجند كلهم عربا ففتحوا الأمصار وأسسوا الدولة وظل معظم الجنود عربا في أيام بني أمية. ثم قام الفرس بنصرة العباسيين وشاركوهم في تأسيس دولتهم، فاشتد ساعد الفرس وضعف أمر العرب. وما زال الفرس يتوقون إلى أيام المأمون الخليفة السابق، فأصبحوا أهل الدولة وفي أيديهم الحل والعقد. ولا يخفى عليك أنهم ما زالوا من أول الإسلام يعملون على رد السلطة إلى الأكاسرة.»
فتنهد المرزبان تنهدا عميقا أدرك منه ضرغام أنه يتحسر على ضياع دولة الفرس، فتجاهل ومضى في حديثه فقال: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم، خاف الفرس ولا سيما أنهم قتلوا أخاه الأمين وسلموا الدولة إلى أخيه وابن أختهم المأمون تمهيدا لردها إلى الفرس بعد موته؛ فلم ير المعتصم خيرا من أن يستعين بقوم أشداء لم تذلهم الحضارة فعمد إلى تجنيد الأتراك.»
فقال: «وهل يقيم هؤلاء ببغداد؟»
قال: «كانوا يقيمون بها إلى عهد غير بعيد، ولكن البغداديين ضاقوا بهم لأنهم كانوا يؤذون العوام في الشوارع، وربما قتلوا بعضهم في الأسواق، فابتنى لهم المعتصم مدينة سماها «سر من رأى» أو «سامرا» واختط فيها الخطط واقتطع فيها القطائع. وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. ثم شيدت بها القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد انتقلت إلى هناك؛ فقصدوها وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس؛ فاتسع عمرانها.»
فأعجب المرزبان بهذا التدبير فقال: «إذن هي مدينة كبيرة؟ وهل بقي الأتراك على دينهم أم غيروه؟»
قال: «لا يخفى على مولاي أن معظمهم يدين بالزرادشتية ولكنهم أصبحوا اليوم مسلمين. ومن أغرب الوسائل التي تذرع بها الخليفة لإبقاء الجند قويا كما هو الآن أنه أبعده عن أهل البلاد ومنع رجاله أن يتزوجوا منهم. ورأى أن يزوجهم ببنات تركيات ابتاعهن من تركستان. وقد أرسل وفدا لابتياع هؤلاء الجواري فاغتنمت أنا الفرصة واستأذنت في مرافقة هذا الوفد فأتيت إلى فرغانة لهذا السبب.»
فقال المرزبان: «لقد سرني قدومك يا ولداه وفرحت برؤيتك، وكأن أورمزد قد هيأ ذلك حتى أراك قبل ...» قال ذلك وتغيرت سحنته وبان الانقباض في وجهه لكنه تشاغل بالسعال ومسح شاربيه وعينيه حتى لا يظهر بكاءه. فاختلست جهان أثناء ذلك نظرة إلى ضرغام بادلها مثلها. وقد فرحت بتودد أبيها إليه ولكنها تأثرت من يأس أبيها. وهي أرغب في بقائه بعد ما عاينته من رضاه على حبيبها، ووثقت بأنه لا يمانع في زواجها منه، وعزمت على ذكر ذلك له في أول فرصة.
أما المرزبان فأراد أن يشغل ضرغاما عما بدا منه فقال: «وكيف حال أمك المسكينة؟»
قال: «هي في خير والحمد لله، ولا تفتر لحظة عن ذكر مولاي وأفضاله علينا، وتذكر مولاتنا جهان؛ لأنها شديدة التعلق بها.»
فرأت جهان سبيلا لمخاطبته فقالت: «مسكينة آفتاب! إني أحبها محبة الابنة لوالدتها، ولم ألق امرأة أطيب قلبا منها، وقد كنت كثيرة الاستئناس بها.»
अज्ञात पृष्ठ