فحول بصره إلى ياقوتة وأطال النظر إليها وعيناه ترتعشان، ثم انتقلت الرعشة إلى أطرافه حتى اصطكت ركبتاه وكاد يسقط، فلحظ ضرغام ذلك فقال له: «أجلس يا سامان وتكلم.» وقد استغربوا تغيره وتحديقه في ياقوتة حتى تولاها الخجل وحولت بصرها عنه. فجلس سامان جاثيا وجعل رأسه بين كفيه وأخذ في البكاء بصوت عال يتخلله شهيق كثير حتى كاد يختنق، فأنكر القوم بكاءه لأول وهلة وظنوه يحتال، فصبروا عليه حتى فرغ من بكائه وهم ينظرون بعضهم إلى بعض. وإذا به ينهض بغتة وترامى عند قدمي ياقوتة وأجهش في البكاء فدهش القوم ولا سيما حماد ووثب إليه ليرجعه عن امرأته فلم يطعه فقال له: «ماذا اعتراك يا سامان؟ يسألونك عن جريمتك الأولى فلماذا لا تجيب؟»
فصرخ قائلا وهو يشير إلى ياقوتة: «هنا غلطتي الأولى. هذه هي!» وعاد إلى البكاء، فازداد الحاضرون دهشة وظنوه جن، ولا سيما جهان فقالت: «قل يا سامان فقد حيرتنا. ما خطبك؟ وما لك وياقوتة بك؟»
قال: «هذه هي غلطتي نفسها. وما هي ياقوتة وإنما هي شهرزاد.»
فلما قال ذلك صاحت آفتاب أم ضرغام: «شهرزاد؟! نعم هي شهرزاد.» وكانت جالسة بالقرب منها فضمتها إلى صدرها وقالت: «قد تنسمت ريحك منذ لمستك للمرة الأولى.» ثم صاحت: «جهان حبيبتي ألا تعرفين شهرزاد؟»
فبغتت جهان وأعملت فكرتها وقالت: «لا أعرف فتاة بهذا الاسم إلا أختا لي ماتت طفلة قبل أن أولد.»
فقالت آفتاب: «هذه هي أختك لم تمت بل كانت قد فقدت. وإنما قالوا ذلك تلطفا وتسترا، ولم يكن يعرف هذا السر إلا أنا وأبوك وسامان هذا. وكن ضياعها على يده، فإنه كان قد خرج بشهرزاد إلى البساتين وهي طفلة لا تكاد تستطيع المشي. فلما عاد سأله أبوك عنها فبكا وزعم أن فرسا من أفراس النخاسين اختطفها منه - لأن في تركستان جماعة يربون الخيل على النخاسة ويعودونها خطف الأطفال بأسنانها فيلتقط الفرس الطفل بأسنانه ويطير به إلى منزل صاحبه - ولم يصدق والدك ما قاله سامان وغضب عليه من ذلك الحين وأشاعوا أنها ماتت!»
وكانت آفتاب تتكلم والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير. فلما فرغت أكبت جهان على ياقوتة وضمتها وطفقت تقبلها وياقوتة أشد فرحا من الجميع؛ لأنها كانت تحسب نفسها جارية فإذا هي بنت المرزبان. فقبلت أختها والدهشة لا تزال سائدة والكل يقولون: «لم تكن هذه المشابهة بين الأختين عن عبث.» وأخذوا يتساءلون وهم يحسبون أنفسهم في حلم فقالت جهان: «يا سامان. قل كيف أخذت شهرزاد منك؟»
فأجابها وهو يمسح دموعه: «انتبهت لوجودي وأنا في نحو العاشرة من العمر، وأختك هذه في نحو الرابعة، ورأيت أبوينا يحبانها كثيرا ويدللانها ويهملانني فدب الحسد في قلبي فصرت أظهر الكره لأختي وهما يزيدانني حسدا بتمييزها عني بالهدايا والنقود. وكنت إذا طلبت نقودا من أبي لم يعطني وأنا أرى النقود مع أختي أو حاضنتها، وسمعت ذات يوم أناسا يطوفون البلاد يشترون الأطفال فغافلت الحاضنة وأخذت شهرزاد إلى البساتين فرأيتهم مارين فبعتها لهم بدينارين وعدت وساروا هم في طريقهم. ولما سئلت عنها قلت إنها خطفت مني فلم يصدق أبي. وعرف بعد ذلك أني بعتها وبعث من يفتش ويبحث بلا فائدة. فكرهني من ذلك الحين وهددني بالحرمان من ماله، فصرت أرى كل الناس أعدائي، وتوهمت أن كل حركة يأتونها إنما يريدون بها نكايتي أو أذيتي، فأصبحت ولا هم لي إلا كسب المال لأستعين به عليهم. وأول سعي بذلته في هذا السبيل أني حاولت منع أبي من كتابة الوصية ففشلت، فأردت إصلاح هذا الفشل فوقعت في فشل آخر. وهكذا كما تعلمون. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا وأنا في السجن منذ يومين.» قال ذلك وتنفس الصعداء، ثم عاد إلى إتمام الحديث وقد زاد وجهه امتقاعا وبدت الرعدة في أطرافه والاضطراب في عينيه وقال: «وقد تأخذكم الشفقة علي بعد ما بسطته لكم، فاعلموا أني لا ألتمس عفوكم؛ لأن من كانت حياته سلسلة فظائع لا يجوز أن تنتهي بغير القتل.» قال ذلك واستل من جيبه خنجرا طعن به صدره فسقط يتخبط بدمه.
فضج الحضور وابتعد النساء عن هذا المنظر. وقد أسفوا على موت سامان بعد أن أيقنوا أنه تاب، فترحموا عليه وأمروا بدفنه وكانت جهان أكثرهم حزنا عليه.
أصبحت روابط القرابة والنسب الجديدة بين جهان وياقوتة حديث الناس، واقتسما ميراث أبيهما، وأصبح حماد وضرغام نسيبين وقد نالا حظوة في عيني المعتصم وتم لهما ما يريدان. على أن ضرغاما بقي في خاطره شيء يحب الاطلاع عليه فخلا إلى أمه يوما وقال لها: «ألم يئن الوقت لكشف حقيقة نسبي؟ ما الذي تنتظرينه بعد الذي رأيته من نعم المولى علي؟!»
अज्ञात पृष्ठ