فقال ضرغام: «كنت قد استطلت الحرب واستبطأت الفتح فلما رأيت هذه الحصون ووعورة الأرض أيقنت أن الأفشين قد أتى بما لا يستطيعه إلا الأبطال، وما أنا من يزيد في إقدامه أو يسهل فتحه، ولكنني مللت القعود وأحببت أن يكون لي في هذه الحرب نصيب. فارم بي حيث تشاء.»
فتأكد الأفشين من يأس ضرغام، وأحب تغيير الحديث ليهيئ له مهلكا فقال: «بورك فيك. لا بد أن تستريح أولا من عناء السفر ... أخبرني عن أهل سامرا كيف هم وكيف أمير المؤمنين؟»
قال: «كلهم في قلق من أمر بابك هذا، ولكنهم يثنون على ثبات الأفشين وحسن تدبيره ... وقد آنست من الخليفة رغبة في إنهاء هذه الحرب، فجئت لألقي نفسي في أقرب السبل إلى ذلك عسى أن أتعجل الشهادة.» قال ذلك وأبرقت عيناه بريقا حادا قرأ الأفشين خلاله حديثا طويلا فقال: «غدا ننظر في ذلك. وأما الآن فاخرج بنا نطلعك على معسكرنا ومواقع القواد ونظام الخنادق والحصون والمكامن.» ونهض وأمر أن تهيأ الأفراس.
فنهض ضرغام وهو يقول: «قد رأيت بعض هذه المعاقل فعلمت أن مولانا الأفشين قد أتى في تنظيمها بالمعجزات.»
وقضى الرجلان بقية اليوم في التجول بين الحصون والاستحكامات. فرأى ضرغام جندا كبيرا وتدبيرا حسنا، وسره اهتمام الأفشين بإطلاعه على ذلك من تلقاء نفسه فقال له: «إن مثل هذا الجند لا ينبغي أن يصبر على فتح البلد طويلا.»
قال: «غدا أقص عليك سبب الإبطاء.» وافترقا.
فذهب ضرغام إلى فسطاطه وكان وردان في انتظاره وقد أصبحا صديقين حميمين. فلما اجتمعا قص ضرغام عليه ما لقيه عند الأفشين إلى أن قال: «وقد وعدني الأفشين أن يسرع في القتال، وألححت عليه أن يرمي بي في أخطر المواقع فإذا لم أرجع فإني أعهد إليك منذ الآن في العناية بأمي المسكينة.» قال ذلك واختنق صوته فتنحنح حتى يخفي اختناقه وعاد إلى إتمام كلامه فقال: «وأنت تعلم ما قاسته في محبتي. أما ياقوتة فاحتفظ بها ريثما يمن الله عليها برجوع خطيبها. وأظنك تعرفه. وأما جهان فإذا كانت على قيد الحياة ولقيتها بعد موتي فبلغها ما تعلمه من وجدي!»
فقطع وردان الحديث وقال: «لا توصني فإني لن أبقى بعدك، وما صحبتك إلا لأكون معك حيثما ذهبت.»
قال: «إني ألقي بنفسي إلى الهلاك فرارا من حياة لم يعد لي لذة فيها، فما خطبك أنت؟»
فتنهد وردان وأطرق وذرفت عيناه دمعتين تقطرتا من مآقيه، وكأنه خجل فرفع بصره، وقال: «إن نصيبي من اليأس كبير جدا، ولو علمته لطلبت لي أن أسير إلى الهلاك أمامك وإذا بقيت حيا قصصته عليك. ومهما يكن من شيء فمصيري رهن بمصيرك.»
अज्ञात पृष्ठ