جرت بين جند المسلمين والخرمية مواقع عديدة في أردبيل وغيرها انتهت بتخلي الخرمية عن أردبيل، واستقروا في البذ مدينة بابك وهي مدينة حصينة أو قلعة كبيرة مؤلفة من قصور وقلاع حولها سور ضخم له الأبواب الكبيرة وعليه الأبراج الكثيرة، والطريق إليها وعر بين الجبال والأودية. واقتفى جند المسلمين أثر بابك عندما فر إلى البذ. وبين البذ وأردبيل محطات عدة جعلها المسلمون نقطا عسكرية تحفظ لهم خط الرجعة، وتضمن الاتصال مع سامرا مقر الخليفة. فكانت الميرة القادمة من العراق إذا دخلت أرمينية أنزلوها في أردبيل، ومن هناك ينقلونها إلى نقطة عسكرية أسسها «حصن النهر» ثم يعود حراسها إلى أردبيل ويتولى حراستها جند آخرون من «حصن النهر» إلى أرشف وهكذا إلى خش فبرزند إلى «روذ الروذ» وهي آخر محطة قبل البذ وبينهما بضعة فراسخ.
وكان الأفشين قد كلف جواسيسه أن يختاروا مكانا حصينا يعسكر فيه، فاختاروا في «روذ الروذ» ثلاثة جبال عليها أنقاض أبنية قديمة، فأقام عسكره عليها وسد الطريق الواصلة بينها وبين البذ بالأحجار الضخمة حتى صارت كالحصون، ثم حفر خندقا وراء الحجارة عند كل طريق ما عدا طريقا واحدا يخرج منه رجاله إذا أراد الهجوم، وقد بذل في هذا العمل جهدا شاقا فكان الرجال ينقلون الحجارة ويحفرون الخنادق ، والعساكر يحرسونها ليلا ونهارا.
وكان «روذ الروذ» واديا بين آكام وعرة. فعبأ رجاله وعهد إلى كل قائد من قواده، بفرقة منهم؛ وهم ثلاثة: جعفر الخياط، وأبو سعيد، وأحمد بن الخليل. أقامهم في محطات بينه وبين البذ قبل الوادي الفاصل بينهما، فأصبح معسكر الأفشين كبير جدا إذا أراد النهوض أو السير به جعل الإشارة ضرب الطبول لبعد المسافات واحتجاب الفرق بعضها عن بعض بالجبال والأودية. فإذا سار ضرب الطبول، وإذا وقف أمسك. فيقف الجند جميعا أو يسيرون جميعا في مصافهم وعلى ترتيبهم. وكان للأفشين معسكر أقامه على أكمة يشرف منه على «البذ» ويرى قصر بابك وغيره من قصور المدينة.
وكان بابك كثير الاعتماد في حروبه على طوائف من رجاله يرسلهم ليكمنوا في الأودية وراء التلال ليفاجئوا جند المسلمين ويغدروا بهم. وكان الأفشين يهتم كثيرا بقطع دابرهم فيرسل الجواسيس أو الكوهبانية للبحث عن الكمين.
قضى في ذلك الحصار مدة طويلة وهو يشاغل الخرمية فيأمر قواده فيقطع الواحد منهم الوادي إلى الجانب الآخر إزاء البذ في كردوس من رجاله فيقف بهم هناك فيخرج بابك فرقة من جنده تحمي باب السور وتمنع الأعداء منه، فإذا انقضى النهار أمر الأفشين رجاله بالعودة إلى معسكرهم وراء الخندق ويبيتوا هناك، فتضايق الخرمية من هذه المناورات فعزموا على الفتك بهم فراقبوا رجوع كراديس الأفشين من جانب الوادي ذات يوم كالعادة حتى لم يبق منهم إلا جعفر الخياط بكردوسه فخرجوا عليه وارتفعت الضجة فرجع جعفر ورد الخرمية بنفسه إلى باب البذ وتصايح الجند حتى بلغت الضجة الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون فخاف أن يفسدوا عليه خططه.
أما جعفر فجاءته نجدة من المتطوعة وهي فرقة تنصر المحاربين رغبة في الغنائم والسبي، فاشتد أزره وهجموا على السور وتعلقوا به وكادوا يصعدونه ويدخلون المدينة فبعث إليه الأفشين يقول: «إنك أفسدت علي تدبيري فتخلص قليلا قليلا وخلص أصحابك وانصرف.» ثم تحركت كمناء بابك فاضطر جعفر إلى الرجوع أسفا لضياع الفرصة.
وبقي المتطوعة بعد ذلك أياما يقاتلون وحدهم حتى قلت علوفتهم ومئونتهم وهم يتذمرون ويقولون : «لو أنجدنا الأفشين لدخلنا البذ.» وضج سائر الجند وطلبوا أن يبادروا بالقتال فكان يماطل خشية الفشل. أو لعله كان يطاول رغبة منه في جمع المال؛ لأن المعتصم كان قد جعل له على كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ما عدا العدة والمئونة. فجمع من ذلك مالا كثيرا كان يرسله إلى أشروسنة.
وكان الأفشين جالسا ذات يوم في فسطاطه المطل على البذ، فوقع نظره على جماعة من رجاله يقودون رجلا عليه لباس أهل تلك المنطقة، وما وصلوا به إليه حتى عرف أنه سامان أخو جهان. فأجفل ولكنه توقع أن ينتفع به فصاح بالرجال أن يتركوه، فتقدم سامان مطأطئ الرأس وجثا بين يدي الأفشين فأمره أن يقف وبش له وقال: «من أين أتيت؟»
قال: «من البذ يا سيدي.»
فأشار إليه أن يقعد فقعد متأدبا. ثم سأله: «ما الذي أدخلك هذه المدينة؟»
अज्ञात पृष्ठ