المجلد الأول
مقدمة
...
كتاب العرش
تأليف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (٧٤٨هـ)
دراسة وتحقيق: د. محمد بن خليفة التميمي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران ١٠٢] .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء ١] .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب ٧٠-٧١] .
1 / 7
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد:
فإن عقيدة أهل السنة والجماعة هي عقيدة الطائفة المنصورة الباقية، كما أخبر بذلك الرسول ﷺ حيث قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" ١.
وهي الفرقة الناجية التي قال عنها ﷺ: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" ٢.
_________
١ أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ... الخ".
وانظر صحيح مسلم بشرح النووي (١٣/٦٦) .
٢ أخرجه أبو داود (٥/٤) رقم (٤٥٩٦، ٤٥٩٧) .
والترمذي (٥/٢٥-٢٦) رقم (٢٦٤٠، ٢٦٤١) .
وابن ماجة (٢/١٣٢١) رقم (٣٩٩١-٣٩٩٣) .
والإمام أحمد (٢/٣٣٢)، (٣/١٢٠، ١٤٥)، (٤/١٢٠) .
والحاكم في المستدرك (١/١٢٨) وقال: (صحيح على شرط مسلم، و(٢/٤٨٠) وقال: صحيح الإسناد.
والدارمي (٢/١٥٨) رقم (٢٥٢١) .
والطبراني في الكبير (٨/٣٢١، رقم٨٠٣٥)، (٨/٣٢٧، رقم٨٠٥١)، (٨/١٧٨، رقم٧٦٥٩)، (١٠/٢٧١-٢٧٢، رقم٢١١، ٢١٢)، وفي الصغير (١/٢٢٤) .
والآجري في الشريعة (١/٣٠٤-٣١٥، رقم ٢١-٢٩) .
وابن أبي عاصم في السنة (١/٣٢-٣٥) .
واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (١/١٠٠-١٠٢) .
والطبري (٢٧/٢٣٩) .
ورواه ابن بطة في الإبانة (١/٣٦٧-٣٧٥، رقم٢٦٣-٢٧٥) .
وأبو يعلى في مسنده (٦/٣٤٠-٣٤٢، رقم٣٦٦٨) .
وابن حبان في صحيحه (٨/٤٨، رقم٦٢١٤) .
وابن أبي شيبة في المصنف (١٥/٣٠٨، رقم١٩٧٣٨) .
والمروزي في السنة (ص١٨، ١٩) .
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو حديث صحيح مشهور) . انظر المسائل (٢/٨٣)، والفتاوى (٣/٣٤٥) .
واعتنى به الشاطبي في الاعتصام.
وأورده ابن كثير في تفسيره (١/٣٩٠) .
وأورده الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة (٣/٤٨٠) .
1 / 8
فعلامتهم كما أخبر النبي ﷺ أنهم يكونون على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه فتلك ميزة تميزت بها عقيدة أهل السنة والجماعة لا توجد
1 / 9
عند غيرهم، فعقيدتهم تتميز بأصولها التي تُستمدُ منها كل مسائل هذا العلم.
فالقرآن الكريم الذي هو حبل الله المتين، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة.
والأصل الثاني السنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله ﷺ، فلقد أوجب الله على الناس اتباع رسوله ﷺ والاقتداء بسنته، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر ٧]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب ٢١] .
فأهل السنة والجماعة كان اعتصامهم بالكتاب والسنة "بخلاف أهل البدعة والفرقة، فإن عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والسنة، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ والآيات والأحاديث التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، فليس مقصودهم أن يفهموا مراد الله ومراد رسوله، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها"١.
_________
١ مجموع الفتاوى (١٣/٥٨-٥٩) بتصرف.
1 / 10
وأما أهل السنة والجماعة فأصولهم التي اعتمدوا عليها هي الكتاب والسنة ومرادهم اتباع شرع الله الذي شرعه على لسان رسوله محمد ﷺ.
قال الإمام الشافعي ﵀: "آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله ﷺ على مراد رسول الله"١.
ولذلك لم يستقلوا بفهومهم وإنما اعتمدوا في فهم تلك الأصول على ما فهمه أصحاب النبي ﷺ، الذين عاشوا فترة نزول الوحي، وعلموا مراد الله ومراد رسوله ﷺ، وهذه ميزة ثانية، فإذا كانت أصول أهل السنة واحدة وهي الكتاب والسنة فكذلك أئمة أهل السنة هم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فعلى علمهم وفهمهم يعولون وعن قولهم يصدرون.
قال الإمام أحمد ﵀: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ، والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
والسنة عندنا آثار رسول الله ﷺ، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول والأهواء، إنما هي الاتباع وترك الهوى"٢.
_________
١ مجموع الفتاوى (٤/٢) .
٢ شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (١/١٥٦) .
1 / 11
فأمور هذا الدين ترجع إلى سند متصل إلى النبي ﷺ، فلذلك كان لأهل السنة سندهم المتصل، ولذلك يقال لأهل البدع هذه هي أصولنا وأسانيدنا ترجع إلى النبي ﷺ، فيا ترى أصول أهل البدع إلى أي شيء ترجع؟!
ومن هذا المنطلق كان الاعتناء بالمأثور عن سلف الأمة سمة بارزة من سمات أهل السنة والجماعة ولذلك زخرت مؤلفاتهم بالمأثور من كلام الله وكلام رسوله ﷺ، وأقوال السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واقتدى طريقهم، وسلك سبيلهم.
ويحق لكل صاحب سنة أن يفخر بما تركه علماء السنة من تراث عظيم حوى منهج أهل الحق وتضمن أقوال علماء وأئمة شرحوا طريق الهدى ونافحوا ودافعوا عن العقيدة الصحيحة لكي تبقى نقية صافية، كما تركها لنا النبي ﷺ.
ويصدق على أولئك الأئمة الأعلام وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم
1 / 12
على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين"١.
فلله در أولئك الأئمة الذين حموا حياض هذا الدين ودافعوا عن صراط الله المستقيم، وتركوا لنا تراثًا عظيمًا سطروا فيه بيراعهم منهج الحق القويم وأبطلوا فيه شبهات حزب الشيطان الرجيم.
فحري بذلك التراث أن يخدم وأن يخرج من خزائن المكتبات وحيز المخطوطات.
وهذا وإن من بين تراثنا السلفي الجدير بالعناية والاهتمام، كتاب ظل حبيس عالم المخطوطات ردحًا طويلًا من الزمن، ألا وهو كتاب "العرش" للإمام الذهبي، وهو كتاب نفيس في بابه، حشد فيه المؤلف العشرات من النصوص والآثار التي توضح عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة من كبريات مسائل توحيد الأسماء والصفات ألا وهي مسألة إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه.
_________
١ الرد على الزنادقة والجهمية (ص٥٢ - ضمن عقائد السلف) .
1 / 13
وقد دفعني لخدمة هذا الكتاب وإخراجه ما تضمنه من مادة علمية مهمة في بابها، وإضافة إلى المنهج السلفي الذي سلكه هذا الإمام في تقرير الحق وإثباته.
وقد حرصت على إخراج الكتاب على أفضل صورة وأبهى حلة، فنهجت المنهج العلمي في تحقيق نصه وضبطه، وتخريج أحاديثه وآثاره، والترجمة لأعلامه، وشرح غريبه، ووضع فهارس فنية لمحتوياته.
ونظرًا لأهمية الكتاب وموضوعه فقد خدمت الكتاب بدراسة موضوعية احتوت على الأمور التالية.
القسم الأول: الدراسة الموضوعية
الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته.
الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة.
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.
الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته.
المبحث الأول: التعريف بالمعطلة.
تمهيد.
المطلب الأول: الفلاسفة.
المطلب الثاني: أهل الكلام.
1 / 14
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم.
المطلب الأول: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عمومًا.
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى.
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى.
الفصل الثالث: المشبهة.
المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه.
المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة.
الباب الثاني: الأقوال في صفتي العلو والاستواء.
الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو.
المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم.
المبحث الثاني: أقوال المخالفين.
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء.
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء.
المبحث الثاني: أقوال المخالفين.
الفريق الأول: نفاة الاستواء.
الفريق الثاني: القول بالتفويض.
الفريق الثالث: قول المشبهة.
1 / 15
الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والاستواء.
المبحث الأول: هل يخلو العرش منه حال نزوله.
المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة.
المطلب الأول: حكم الألفاظ المجملة.
المطلب الثاني: مسألة الحد.
المطلب الثالث: مسألة المماسة.
الباب الثالث: العرش وما يتعلق به من مسائل.
الفصل الأول: تعريف العرش.
المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش.
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش.
الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة.
المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش.
المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش.
الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه.
المبحث الأول: خلق العرش وهيئته.
المبحث الثاني: مكان العرش.
المبحث الثالث: خصائص العرش.
الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش وعلى الكرسي.
1 / 16
المبحث الأول: الكلام على حملة العرش.
المبحث الثاني: الكلام على الكرسي.
القسم الثاني: التعريف بالمؤلف والكتاب.
الفصل الأول: التعريف بالمؤلف.
أولًا: اسمه وكنيته.
ثانيًا: أصله.
ثالثًا: نسبته.
رابعًا: مولده.
خامسًا: أسرته.
سادسًا: نشأته في طلب العلم.
سابعًا: رحلاته.
ثامنًا: شيوخه.
تاسعًا: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
عاشرًا: عقيدته.
الحادي عشر: مؤلفاته.
الثاني عشر: تلاميذه.
الثالث عشر: وفاته.
الفصل الثاني: التعريف بالكتاب.
1 / 17
أولًا: اسم الكتاب.
ثانيًا: توثيق نسبة الكتاب للمؤلف.
ثالثًا: الفرق بين كتاب العرش وكتاب العلو.
رابعًا: موارد كتاب العرش.
خامسًا: منهج المصنف في الكتاب.
سادسًا: أهمية الموضوع والكتاب.
سابعا: دراسة النسخة الخطية.
ثامنًا: عملي في الكتاب.
وبعد: فهذا جهد المقل، أضعه بين يدي القارئ الكريم، وقد بذلت فيه قصارى جهدي، وغاية وسعي، فما كان فيه من صواب وحق فالحمد لله على توفيقه، وذلك من فضله ومنّه، وما كان فيه من خطل، أو زلل، أو خلل، فأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة.
وأستسمح القارئ الكريم عذرًا إذا ما وجد في عملي هذا تقصيرًا، فهذا جهد البشر، فأرجو من كل من اطلع على خطأ أو قصور أن يبادرني النصيحة مشكورًا مأجورًا.
والله أسأل أن ينفع بهذا العمل ويبارك فيه، وأن يجعله عملًا صالحًا ولوجهه خالصًا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 18
القسم الأول: الدراسة الموضعية
الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته
الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة
...
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة
المقصود بأهل السنة والجماعة: الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، ومن سلك سبيلهم، وسار على نهجهم، من أئمة الهدى، ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين.
فيخرج بهذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء.
فالسنة هنا في مقابل البدعة، والجماعة هنا في مقابل الفُرقة.
فعن ابن عباس ﵄ في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران ١٠٦] قال: "تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرقة"١.
والجدير بالذكر هنا أن نعرف أن العلماء يستعملون هذه العبارة لمعنيين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلفظ أهل السنة يراد به:
١ـ من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة٢.
_________
١ تفسير ابن كثير (١/٣٩٠) .
٢ قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أنهم (أي الرافضة) أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضيًا) . مجموع الفتاوى (٣/٣٥٦) .
1 / 27
٢ـ وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: "إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرَى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة"١.
ومقصودنا بعبارة أهل السنة هو المعنى الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أن لأهل السنة أصولهم التي اتفقوا عليها ونصوا عليها في كتب الاعتقاد المعروفة.
ولأهل السنة عدة مسميات منها: أهل الحديث، الفرقة الناجية، الجماعة، وغير ذلك.
ويمكن حصر قواعد منهج أهل السنة في النقاط التالية:
أولًا: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.
ثانيًا: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وذلك يتم بـ:
أ- الاجتهاد في تمييز صحيحيه من سقيمه.
_________
١ منهاج السنة (٢/٢٢١) ط: جامعة الإمام محمد بن سعود.
1 / 28
ب- الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه١.
ثالثًا: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقادًا، وتفكيرًا، وسلوكًا، وقولًا، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.
رابعًا: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان.
فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد، والعمل، فهو على نهج أهل السنة بإذن الله.
_________
١ بيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب (ص١٥٠-١٥٢)، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (١/٩-١٠) .
1 / 29
المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته، يقوم على أساس الإيمان بكل ما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتًا ونفيًا، فهم بذلك:
١ـ يسمون الله بما سمى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه.
٢ـ ويثبتون لله ﷿ الصفات ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ من غير تحريف١، ولا تعطيل٢، ومن غير تكييف٣، ولا تمثيل٤.
_________
١ التحريف لغة: التغير والتبديل. والتحريف في باب الأسماء والصفات هو: تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها.
٢ التعطيل لغة: مأخوذ من العطل الذي هو الخلو والفراغ والترك، والتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها.
٣ التكييف لغة: جعل الشيء على هيئة معينة معلومة، والتكييف في صفات الله هو: الخوض في كنه وهيئة الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
٤ التمثيل لغة: من المثيل وهو الند والنظير، والتمثيل في باب الأسماء والصفات هو: الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق.
راجع في معاني هذه الألفاظ ما ذكرناه في كتابنا «معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات» (ص٧٠-٨١) .
1 / 30
٣ـ وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله محمد ﷺ، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.
فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة، فكل اسم أو صفة لله ﷾ وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات فيجب بذلك إثباتها.
وأما النفي فهو أن ينفى عن الله ﷿ كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي.
قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ لا نتجاوز القرآن والسنة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي ممثالة المخلوقات قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ١ فهذا رد على الممثلة ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ٢ رد على المعطلة.
_________
١ الآية ١١ من سورة الشورى.
٢ الآية ١١ من سورة الشورى.
1 / 31
وقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله ﷾ منزهٌ عن صفات النقص مطلقًا كالسِّنَةِ، والنوم، والعجز، والجهل، وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"١.
ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في أسماء الله في النقاط التالية:
١ـ الإيمان بثبوت الأسماء الحسنى الواردة في القرآن والسنة، من غير زيادة ولا نقصان.
٢ـ الإيمان بأن الله هو الذي يسمي نفسه، ولا يسميه أحد من خلقه، فالله ﷿ هو الذي تكلم بهذه الأسماء، وأسماؤه منه، وليست محدثة مخلوقة كما يزعم الجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والأشاعرة، والماتريدية.
٣ـ الإيمان بأن هذه الأسماء دالة على معانٍ في غاية الكمال، فهي أعلام وأوصاف، وليست كالأعلام الجامدة التي لم توضع باعتبار معانيها، كما يزعم المعتزلة.
_________
١ منهاج السنة (٢/٥٢٣) .
1 / 32
٤ـ احترام معاني تلك الأسماء، وحفظ ما لها من حرمة في هذا الجانب، وعدم التعرض لتلك المعاني بالتحريف والتعطيل كما هو شأن أهل الكلام.
٥ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الأسماء من الآثار وما ترتب عليها من الأحكام١.
ويمكن إجمال معتقد أهل السنة في "صفات الله" في النقاط التالية:
١ـ إثبات تلك الصفات لله ﷿ حقيقةً على الوجه اللائق به، وأن لا تعامل بالنفي والإنكار.
٢ـ أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسمًا آخر.
كما تسمي الجهمية المعطلة سمعه، وبصره، وقدرته، وحياته، وكلامه أعراضًا.
ويسمون وجهه ويديه وقدمه -سبحانه- جوارح وأبعاضًا، ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة: عللًا وأعراضًا.
ويسمون أفعاله القائمة به: حوادث.
_________
١ انظر تفاصيل هذه المسألة في كتابنا «معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى» .
1 / 33
ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه: تحيزًا. ويتواصون بهذا المكر الكُبَّار إلى نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة، وآثار الصنعة من صفاته.
فيسعون بهذه الأسماء التي سموها هم وأباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه.
٣ـ عدم تشبيهها بما للمخلوق. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
٤ـ اليأس من إدراك كنهها وكيفيتها. فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها. فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟. ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعروفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك"١.
٥ـ الإيمان بما تقتضيه تلك الصفات من الآثار وما يترتب عليها من الأحكام.
وقد بسطت معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته في الدراسة الأولى من سلسلة "دراسات في مباحث توحيد الأسماء والصفات"، فمن أراد الاستزادة والتوسع فليرجع إلى تلك الدراسة.
_________
١ انظر مدارج السالكين (٣/٣٥٨-٣٥٩) .
1 / 34