بعد تناول العشاء، استأذنت إلينورا في الانصراف، وذهبت مباشرة إلى الفراش. رقدت على ظهرها وغطاؤها مطوي تحت عقبيها، وأنصتت إلى أصوات المنزل وهي تخفت. راقبت الظلال تتحرك على السقف وهي تقارن بين صوت تنفسها وبين صليل حيوانات الليل. إنه عالم مختلف، عالم الليل، قاع البئر، فتحة قد لا نخرج منها أبدا. وفي لحظة بدت حلما مر ظبي بجوار نافذتها، ورمقها بعينين تعكسان بعض الضوء المختبئ كما لو كان سلسلة من المنارات تتضاعف على الشاطئ، ثم اختفى مرة أخرى في الظلام.
عندما استيقظت إلينورا في صباح اليوم التالي كانت تعلم جيدا ما عليها أن تفعله، لم يكن لديها خيار آخر. فاستمرت في حياتها كالمعتاد على مدار الأسابيع القليلة التالية. كانت تقرأ وتقشر الخضراوات وتمسح الأرض، بل تستمع أيضا إلى بعض القصص التي يرويها والدها، ولكنها في تلك الأثناء كانت تخطط لتفاصيل الهرب. قررت أن أهم شيء هو تحضير حقيبة من المؤن كي تقيم أودها في الأيام الأولى حتى تتمكن من إيجاد وسيلة للحصول على الطعام. واستخدمت للحقيبة غطاء وسادة قديما، مصنوعا من قماش قطني باللون الأزرق الفاتح، يزينه صف من الورود الصفراء في الأعلى. وكان الحصول على المؤن أيسر كثيرا مما تخيلت، فقد احتفظت ببقايا الشموع وأخفت قطعا من الجبن غير المأكول في جيبها، وكلما أتتها الفرصة اختلست كميات قليلة من أغراض غير ظاهرة من حجرة المؤن. وكان عليها أن تجري تلك الترتيبات في سرية تامة؛ فسوف يفسد الأمر برمته لو شعر والدها أو روكساندرا للحظة بما تنوي فعله.
في اليوم السابق لرحيل يعقوب كانت أكثر مرة تعرضت فيها للخطر ونجت بأعجوبة. كان عصرا صافيا، وهو أول يوم صاف منذ أسابيع، وأعلنت روكساندرا أنها ستخرج كي تنفض السجاد. راقبت إلينورا خالتها وهي تحمل ما بدا عددا لا نهائيا من السجاجيد واحدة تلو الأخرى إلى الحديقة، فأخذت مقعدا واتجهت نحو حجرة المؤن، وصعدت عليه كي تلقي نظرة على الأغراض: اللحم المدخن وقوالب متراصة من الجبن وجميع أنواع المخللات والمربى وفاكهة مجففة وفطيرة كبيرة باللحم المفروم. كان ثمة طعام يكفيها لمدة شهر. وفي نهاية الأمر، استقرت إلينورا على برطمان من مربى العليق وقطعة من السمك المقدد المملح. كانت قد أخذت البرطمان تحت ذراعها بالفعل، وكانت تحاول الوصول إلى السمك عندما شعرت بإضاءة المدخل تحجب. «ظننت أنك قد تختلسين القليل من المربى؟»
فزعت إلينورا وأطاحت بالبرطمان على الأرض، ونظرت هي وروكساندرا إلى الزجاج المتهشم ومربى العليق وهي تسيل ببطء كالحيوان الرخوي الذي دهسته الأقدام. «بينما كنت مشغولة في الحديقة خطر لك أن تصنعي لنفسك شطيرة من المربى، أليس كذلك؟ كان هذا هو آخر برطمان من مربى العليق، هل تعلمين ذلك؟»
بينما كانت روكساندرا تتحدث، نزلت إلينورا عن المقعد وخفضت رأسها في استسلام. لقد ضبطت متلبسة، ولكن روكساندرا لم تكن لديها فكرة عما تنوي فعله بالمربى، والقصد هو المهم.
قالت: «أنا آسفة أيتها الخالة روكساندرا.» وتسللت ابتسامة إلى شفتيها، ولكنها كتمتها وتابعت قائلة: «كنت جائعة.» «حسنا، سوف تظلين جائعة حتى موعد العشاء. والآن نظفي تلك الفوضى، ويفضل ألا أراك تتسكعين في أرجاء حجرة المؤن مرة أخرى.»
في تلك الليلة أعدت روكساندرا وجبة الخريف المفضلة عند يعقوب: دجاج بصلصة البرقوق، وحساء القرع، وفطيرة التفاح. ورغم أن إلينورا كانت تتضور جوعا، فإنها لم تتمكن من تناول الطعام من شدة الاضطراب، فخلال أقل من اثنتي عشرة ساعة سوف تختبئ في السفينة المرتحلة إلى إسطنبول. اضطربت معدتها للفكرة، وظلت تستمع إلى والدها وروكساندرا وهما يناقشان التفاصيل الأخيرة لرحلته، ومتى تأتي سيارة الأجرة لتقله، وموعد رحيل الباخرة، وما إذا كان قماش فيينا المطرز قد وصل، ومن سيكون رفيقه في الرحلة، وهكذا من أمور. وفي تلك الأثناء، كانت تتسابق في عقل إلينورا صور إسطنبول وتفاصيل خطتها وكل المشاكل التي قد تحدث.
بعد العشاء الذي لم تتناول منه شيئا تقريبا، استأذنت في الانصراف، متعللة بأنها ليست على ما يرام. وأخبرها والدها الذي كان مشغولا بتعبئة حقائبه في اللحظة الأخيرة بأنه سوف يطمئن عليها عندما ينتهي، وكالعادة كان صادقا في حديثه.
قال وهو يسترق النظر إلى الغرفة: «إيلي، هل أنت مستيقظة؟»
فانقلبت على جانبها وأغمضت عينيها . ورغم أنها لم تكن قد نامت، فقد رأت أنه من الأفضل أن تتظاهر بذلك. كان والدها يرتدي حلته الرمادية الصوفية المعتادة، ولكنها بدت أكثر تجعدا من المعتاد. وكان شاربه مهذبا، وثمة نبرة من التوجس في صوته.
अज्ञात पृष्ठ