ساد الصمت لبرهة، واستطاعت إلينورا أن تسمع صوت تقطيع اللحم. «كل ما أريده أن تكون إيلي سعيدة.» «نريد جميعا أن تكون إيلي سعيدة، ولكنها في حقيقة الأمر أخلت بالقاعدة.»
رد والدها بفم ملئ باللحم: «ربما نستمر في الدروس مرة كل يومين أو مرة واحدة في الأسبوع.» «لقد أخلت بالقاعدة. كانت توجد قاعدة واحدة فحسب، وقد أخلت بها.»
لم يجب والدها. «ثمة شيء غريب بها، وأنت قلت هذا بنفسك. والآن الجميع يعرفون، والآن الكل قد رآه.»
بعد لحظات من الصمت، سمعت إلينورا صوت جر مقعد بعيدا عن الطاولة، ثم تنحنح والدها. «سأذهب إلى غرفة المعيشة.»
استمرت إلينورا تنصت عبر ثقب الباب، بينما امتزج الدخان المتصاعد من غليون أبيها بصوت غسل روكساندرا للأطباق. وبعد مرور بضع لحظات من هذا الصمت غير المريح، عادت إلى فراشها، وبعد أن رقدت على جانبها كالجنين جالت بنظرها في أنحاء غرفتها الصغيرة؛ فاتجهت نظرتها من حوض غسل الوجه المتداعي ذي الأرجل الثلاث إلى العيب الذي يشوب اللوح الزجاجي بالنافذة وخزانة الملابس القصيرة العريضة أسفله. إنها لم تكن تنوي الإخلال بالقاعدة، كما أنها لم تقصد أن تضايق روكساندرا. كل ما هنالك أنها أرادت أن تفعل الصواب. استلقت إلينورا على ظهرها، ثم حدقت إلى السقف وشاهدت الظلال تتحرك في أنحاء غرفتها. هل يشوبها شيء غريب حقا؟ هي لم تشعر بكونها غريبة أو مختلفة أو يشوبها أي شيء بخلاف ما تظنه طبيعيا. أغمضت إلينورا عينيها وأنصتت إلى صوت الهدهدة الواهن الصادر عن سربها، وانجرفت في أفكار حول روبنسون كروزو العالق وحيدا على جزيرة اليأس المهجورة. إذا لم تستطع أن تواصل دروسها، فسيظل هو حبيسا هناك في عقلها إلى الأبد.
الفصل الرابع
لم يكن مصير دروس إلينورا مسألة مطروحة للنقاش؛ فقد أخلت بأهم قاعدة، بل في حقيقة الأمر القاعدة الوحيدة، ولا تكفي أي أعذار أو توسلات لإقناع خالتها كي تلين. ولكن تقديرا لسلوكها المطيع في الأشهر التي أعقبت الحدث الذي وقع في متجر السيد سيداميت، سمح لإلينورا أن تقرأ بغرض الاستمتاع بمعدل كتاب واحد في الشهر، وما زاد على ذلك سيفقد متعته كما عللت خالتها. ورغم أن إلينورا اختلفت معها في هذا الرأي، فقد التهمت حصتها الشهرية دون اعتراض، فكانت تكتفي قدر المستطاع بعدد محدود من الصفحات كل ليلة، وقرب نهاية الشهر تبذل قدرا هائلا من الوقت والطاقة في اختيار الكتاب التالي. قضت ليالي كاملة في موضع النظرة الخاوية للقطط الخزفية، متأملة محتويات المكتبة. وكانت تولي عناية خاصة للكتب نفسها؛ لدرجة اللون، ونسيج التجليد، وجودة الورق، وشكل الحروف على كعب الكتاب، كما لو كانت تلك الخصائص الخارجية قد تكشف إلى حد ما عن محتوى الكتاب.
ذات صباح ممطر في نهاية شهر سبتمبر، بعد عيد ميلادها الثامن بما يزيد قليلا على شهر، كانت إلينورا تتأمل المكتبة كالعادة وهي في انتظار ارتفاع درجة حرارة المكواة. بدأت بالرف السفلي كتابا كتابا وهي ترفع المكواة من على الفحم كل حين وآخر كي تفحص الحرارة. وبينما كانت إلينورا تكبر وتثبت كفاءتها، عهد إليها تدريجيا ببعض المهام المنزلية الأكثر صعوبة مثل تقطيع الخضراوات والحياكة، وكان الكي أحدث إضافة إلى مجموعة أدوارها، وسرعان ما أصبح أحد مهامها المفضلة. كانت تحب رائحة الفحم الثقيلة، والمقبض الخشبي الناعم، والخطوط المتموجة التي تصنعها وهي تضغط على سروال والدها. كانت مسئولية كبيرة، ولكنها كانت كفؤا لها، فلم تحرق أيا من ملابس والدها قط، وكانت دائما شديدة الحرص وهي تخرج الفحم من الموقد. وبالإضافة إلى ذلك، كان موقع الكي يتيح لها رؤية ممتازة للمكتبة.
عندما ارتفعت حرارة المكواة بما يكفي، أخذت إلينورا سروالين من سراويل والدها من الخزانة وبسطتهما، ونضحت حفنة من الماء على ثنية الساق، ولمست سطح المكواة السفلي بأطراف أصابعها المبللة، وبدأت تعمل وهي تراقب البخار المتصاعد وهو يتلاشى. وعندما انتهت من الساق اليسرى أعادت المكواة إلى مكانها على الفحم، وألقت نظرة أخرى على المكتبة. كانت قد قضت شهر أغسطس في قراءة «جين إير»، ومعظم شهر سبتمبر في مغامرات ديفيد كوبرفيلد، وكانت شديدة الحماس بشأن توقعاتها لشهر أكتوبر. تفحصت الرف العلوي محاولة استيعاب الخيارات المتاحة لها. كانت قد قرأت «عائلة روبنسون السويسرية» في شهر أبريل، وكان ثمة مجلد من القصص القصيرة لنيكولاي جوجول التي بدت مثيرة للاهتمام، ولكنها قصيرة جدا لا تستوعب شهرا بأكمله، ثم وقعت عيناها على رواية بعنوان «تريسترام شاندي». رفعت المكواة عن الفحم، ومس غطاء من البخار جبهتها مطلقا صوت الأزيز. كانت المكواة أكثر من ساخنة، فنضحت المياه على ثنية الساق اليمنى، وهمت بالضغط مرة أخرى عندما نظرت لأعلى ثانية نحو الرف. «تريسترام شاندي»، كان عنوانا جذابا، وبالطبع كتابا كبيرا بما يكفي كي يستوعب الشهر بأكمله.
نحت إلينورا المكواة جانبا، ووقفت على أطراف أصابعها وجذبت «تريسترام شاندي » من على الرف العلوي. وبعد أن قرأت بضع صفحات أدركت أنها ليست الرواية المناسبة التي تبحث عنها، على الأقل ليس لهذا الشهر. وبينما كانت تمد يدها مرة أخرى كي تضعها في مكانها لاحظت كتابا آخر يجذب الأنظار في المنتصف، وهو مجلد باللون الأزرق الداكن ذو كتابة باللون الفضي على كعبه. استندت براحة يدها إلى الحائط ورفعت قدمها إلى الرف الثاني، ودفعت نفسها إلى مستوى القطط الخزفية، ومن هذا الموقع استطاعت أن ترى أن الكتاب جزء من مجموعة أكبر، فهو المجلد الرابع من «الساعة الرملية» كما يوضح الكعب. وخلف مجموعة دوستويفسكي كانت المجلدات السبعة الأخرى، المجموعة الكاملة تقبع في صمت منتظرة أن يكتشفها أحد. جذبت إلينورا المجلد الرابع، وفتحته على مؤشر خشبي رقيق في منتصف الفصل الثاني عشر، وأخذت تقرأ:
अज्ञात पृष्ठ