Care for the Quran in the Prophetic Era
العناية بالقرآن الكريم في العهد النبوي الشريف
प्रकाशक
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
शैलियों
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث موجز حاولت أن أُبيِّن فيه باختصار العناية التي كان يلقاها القرآن الكريم في عهد النبي ﷺ من النبي ﷺ ومن صحابته الكرام ﵃ أجمعين. وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وفصلين، الفصل الأول جعلته بعنوان: حول القرآن الكريم، وتحدثت فيه عن مباحث عامة حول القرآن الكريم كتعريف القرآن الكريم والفرق بينه وبين الحديث القدسي والحديث النبوي، ثم ذكرت طرفًا من فضائل القرآن الكريم عمومًا وفضائل بعض السور خصوصًا، وأثر تلاوة القرآن الكريم على الفرد والجماعة، وتحدثت فيه كذلك عن كتّاب القرآن الكريم وقرائه من صحابة النبي ﷺ.
أما الفصل الثاني فقد جعلته عن عناية النبي ﷺ بالقرآن الكريم فبينت فيه شدة اهتمامه ﷺ بالقرآن، ومن ذلك مثلًا حرصه على تلقي القرآن من الوحي، وأمره بحفظ القرآن والمحافظة عليه من النسيان، وأمره بتحسين الصوت بقراءة القرآن، وغير ذلك من المباحث التي تدل على عنايته ﷺ.
1 / 1
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالقرآن كلام الله ﷾ الذي تكلم به وأوحاه إلى نبيه محمد ﷺ بواسطة الملك جبريل ﵇، فهو الهدى والنور وهو الشفاء، وهو الذكر الذي به تطمئن القلوب، من حكم به عدل، ومن استهدى به هدي، ومن استشفى به شفي بإذن الله، عزَّ به أول هذه الأمة، ولا يعز آخرها إلا به، قال ﷺ: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" ١.وعن علي ﵁ قال: "أما إني قد سمعت رسول الله ﷺ يقول:"ألا إنها ستكون فتنة" فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:"إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد".من قال
_________
١ أورده الألباني ﵀ في صحيح الجامع الصغير برقم ٢٩٣٧ وقال: صحيح.
1 / 2
به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هَدَى إلى صراط مستقيم".١
ولقد اهتم السلف والخلف من هذه الأمة بكتاب ربها، فتلقاه النبي ﷺ من الوحي، وتلقفه الصحابة ﵃ فحفظوه وفهموه وعملوا به، ثم جاءت من بعدهم الأجيال المتعاقبة، جيل من بعد جيل، فألفت فيه التآليف الكثيرة، فكتبٌ في أول ما نزل وآخر ما نزل، وأخرى في ناسخه ومنسوخه وأخرى في محكمه ومتشابهه، وكتبٌ في التفسير بأنواعه، بالإضافة إلى كتب في فضائله. ولو رجعنا إلى محتوى أي كتاب من هذه الكتب لوجدنا الأبواب والفصول الكثيرة التي لا تكاد تحصى، حتى إنه لم يترك شيء يتعلق بالقرآن الكريم إلا دُرس وألِّف فيه، وما ذلك الحفظ إلا لحفظ الله له الذي ذكره بقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩) .
وإني في هذا البحث الموجز – الذي أقدمه لهذه الندوة المباركة: "عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه " التي يعقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة – حاولت جمع ما تيسر لي من الآيات والأحاديث التي تبين العناية بالقرآن الكريم في عهد النبي ﷺ، سواءً كانت تلك العناية منه ﷺ أو من صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن هدفي استقصاء جميع طرق الحديث
_________
١ أخرجه الترمذي برقم ٢٩٠٦ وقال: (هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال) .وقال ابن كثير في كتابه (فضائل القرآن ص ١٦) وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي ﵁، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ".
1 / 3
ورواياته، بل الاستدلال للمسألة التي أنا بصدد الحديث عنها، فإذا وجدت حديثًا في صحيح البخاري مثلًا اكتفيت به ولم أبحث عن بقية طرقه. ولقد بذلت وسعي لئلا أستدل في أصل هذا البحث إلا بحديث صحيح قدر المستطاع، وقد تم لي ذلك ولله الحمد والمنة، غير أحاديث في آخر مبحث منه رأيت أنها في مجموع طرقها لا تنزل عن درجة الحسن أي أنها ليست ضعيفة.
وقد يلحظ القارئ الكريم تكرار الأدلة في مباحث هذا البحث وما ذلك إلا لأن بعض الأدلة فيه دلالة على عدة مسائل، وهذا ما يجعلني أكرر الدليل أو بعضه عند كل مسالة، وقد يكون ذلك أدى إلى بعض الطول في البحث، ولكن هذا الطول غير ممل، إذ القارئ لن يجد في هذا البحث - غالبًا - إلا كلام الله وكلام رسوله ﷺ، وقد حاولت أن لا أكثر من الشرح خشية الإطالة والملل. وما أدليت بدلوي إلا بتقديم بين يدي الدليل أو إشارة إلى بعض ما يحتويه من المعاني.
أما من ترجمت لهم من الصحابة فقد نقلت تراجمهم من سير أعلام النبلاء للذهبي والإصابة لابن حجر كما هي، مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية. وقد اعتمدت في هذا البحث على عدد من المراجع أثبتها في آخره.
وإني أقدم إليك أخي الكريم عذري عن كل سهو أو تقصير وقع في هذا البحث، فالنقص والنسيان صفتان ملازمتان للإنسان، ولو أعدت النظر في هذا البحث مرات ومرات لعدلت وبدلت وقدمت وأخّرت في كل مرة.
فسبحان الله المنزّه عن النقص والعيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
1 / 4
الفصل الأول: حول القرآن
تعريف القرآن الكريم
...
تعريف القرآن الكريم
لقد بذل العلماء قديمًا وحديثًا كل وسعهم لإيجاد تعريف للفظة القرآن فتناولوها من الجانبين اللغوي والاصطلاحي كما هو معهود عند كل تعريف، وأوردوا في ذلك أقوالًا وآراء يكاد يكون كل واحد منها تكرارًا للآخر، غير أن كل واحد من أولئك العلماء الأجلاء رجح رأيًا استحسنه ومال إليه، ومن هنا رأيت في بحثي هذا المتواضع أن أضرب عن التعريف اللغوي صفحًا، إذ لا حاجة ولا فائدة من ذكره هنا، أما التعريف الاصطلاحي فسأذكره لأنني فيما بعد سأتعرض للجانب الآخر من الوحي ألا وهو الحديث بقسميه: القدسي والنبوي وذلك عند ذكر الفرق بينهما وبين القرآن الكريم.
وسبب تناولي لهذه التعريفات أن الرسول ﷺ – كما سيأتي- نَهى عن كتابة شيء عنه غير القرآن وذلك زيادة اهتمام منه ﷺ بالقرآن حتى لا يختلط به غيره من الحديث بنوعيه، ويعلم من ذلك أن الصحابة ﵃ كانوا يفرقون بين ما هو قرآن يجب عليهم كتابته وتدوينه، وما هو غير قرآن نهوا عن كتابته.
التعريف الاصطلاحي للقرآن الكريم
وردت عن العلماء تعريفات كثيرة للقرآن الكريم وهذه التعريفات تتفاوت من ناحية الشمول، فبعضها أشمل من بعض، وتتفاوت كذلك من ناحية الألفاظ. وإني - وإن قل الاعتداد بكثرة ألفاظ التعريف أو قلتها - أقر بأن التعريف ينبغي أن يكون دالًا على جميع أجزاء المعرف بأقل لفظ ممكن، مهما كثرت ألفاظه.
1 / 6
وعند الرجوع إلى كتب علوم القرآن لمعرفة التعريف الاصطلاحي وجدت كما أشرت سابقًا عدة تعريفات فالشيخ مناع القطان ﵀ قال نقلًا عن العلماء – كما يقول: "كلام الله المنزل على محمد ﷺ المتعبد بتلاوته"١.
وقال الشيخ صبحي الصالح ﵀: (هو الكلام المعجز المنزل على النبي ﷺ المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته" ٢.
ثم قال بعد ذلك: وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية".
وأما الشيخ محمد سالم محيسن فعرفه نقلًا عن إرشاد الفحول قائلًا: "هو كلام الله تعالى المنزل على نبينا محمد ﷺ المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلًا متواترًا المتعبد بتلاوته المتحدى بأقصر سورة منه"٣.
أما الشيخ الصابوني فقد عرفه بأنه:"كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين بواسطة الأمين جبريل ﵇ المكتوب في المصاحف المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختتم بسورة الناس"٤.
_________
١ مباحث في علوم القرآن، الشيخ مناع خليل القطان، مكتبة وهبة ص١٦.
٢ مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، دار العلم للملايين ط١٦ ص٢١.
٣ تاريخ القرآن الكريم، رابطة العالم الإسلامي، سلسلة دعوة الحق، السنة الثانية، ١٤٠٢هـ.
٤ التبيان في علوم القرآن، الشيخ محمد علي الصابوني مكتبة الغزالي ص٦.
1 / 7
وقد خرجت من مجموع هذه التعريفات بتعريف أرى أنه أجمع من غيره وهو: "القرآن كلام الله الذي أوحاه إلى نبينا محمد ﷺ يقظة بلفظه ومعناه، المعجز والمتعبد بهما والمنقول إلينا تواترًا والمحفوظ بين دفتي المصحف"١.
وهذه العبارات التي يحتوي عليها التعريف منتقاة من مجموع التعريفات.
_________
١ ترى اللجنة العلمية للندوة أن الراجح في تعريف القرآن هو ما ذكره الطحاوي بقوله: "إن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر" شرح العقيدة الطحاوية (طبع مؤسسة الرسالة) ١/١٧٢.
الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي لقد نطق الرسول ﷺ بالقرآن الكريم كما نطق بالحديث القدسي والحديث النبوي وكان الصحابة ﵃ حريصين على تسجيل كل ذلك وتدوينه، إذ إن كل ذلك دين ينبغي الحرص عليه، ولكن لما كان من الممكن أن يختلط القرآن بغيره نهى النبي ﷺ عن كتابة أي شيء عنه غير القرآن وقد أوردت مبحثًا خاصًا حول هذا النهي. وعلى هذا رأيت أن أذكر –باختصار - الفرق بين القرآن وغيره مما كان ينطق به الرسول ﷺ.
الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي لقد نطق الرسول ﷺ بالقرآن الكريم كما نطق بالحديث القدسي والحديث النبوي وكان الصحابة ﵃ حريصين على تسجيل كل ذلك وتدوينه، إذ إن كل ذلك دين ينبغي الحرص عليه، ولكن لما كان من الممكن أن يختلط القرآن بغيره نهى النبي ﷺ عن كتابة أي شيء عنه غير القرآن وقد أوردت مبحثًا خاصًا حول هذا النهي. وعلى هذا رأيت أن أذكر –باختصار - الفرق بين القرآن وغيره مما كان ينطق به الرسول ﷺ.
1 / 8
قلت: والمقصود هنا ذكر فروق القرآن عن نوعي الحديث دون حاجة إلى ذكر الفروق بين هذين النوعين، ومن تعريف القرآن الكريم وتعريف نوعي الحديث تتضح لنا فروق القرآن عنها، وهي:
١- القرآن الكريم نزل بلفظه ومعناه أما الحديث فنزل بمعناه دون لفظه على الصحيح.
٢- القرآن الكريم معجز بلفظه ومعناه، بخلاف الحديث فليس فيه صفة الإعجاز والتحدي.
٣- القرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر وهو قطعي الدلالة، أما الحديث ففيه المتواتر والآحاد.
٤- القرآن الكريم تصح به الصلاة ولا تصح بغيره.
٥- القرآن الكريم متعبد بلفظه ومعناه فمجرد تلاوته عليها أجر عظيم منصوص عليه في الحديث الصحيح، ولا يجري هذا الأجر على الحديث بنوعيه، وإن كانت قراءته عليها أجر عام غير محدد.
فضل القرآن الكريم وفضل تلاوته وأثر ذلك في حياة الناس: القرآن هو كلام الله الذي يخاطب به كل واحد منا صباح مساء، وقد سبقت في المقدمة الإشارة إلى أوصافه التي تعرف بها مكانته، فالفضل كل الفضل في قراءة حروفه وفهم معانيه والوقوف عند حدوده، لعلَّنا أن نكون
فضل القرآن الكريم وفضل تلاوته وأثر ذلك في حياة الناس: القرآن هو كلام الله الذي يخاطب به كل واحد منا صباح مساء، وقد سبقت في المقدمة الإشارة إلى أوصافه التي تعرف بها مكانته، فالفضل كل الفضل في قراءة حروفه وفهم معانيه والوقوف عند حدوده، لعلَّنا أن نكون
1 / 9
من أهله فقد ورد عنه ﷺ أنه قال: " إن لله أهلين" قيل: من هم يا رسول؟ قال: "أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته" ١
والحديث عن فضل القرآن وفضل تلاوته وأثر تلاوته في حياة الناس حديث قد يطول، لما للقرآن من فضل، ولما ورد فيه من الأدلة الكثيرة، ولما كان من الصعب حصر كل ذلك في هذا البحث الموجز رأيت أن أقدم إشارات لطيفة إلى بعض ذلك، فما لا يدرك كله لا يترك جله. وإليك أيها القارئ الكريم شيء من تلك الأدلة التي جمعتها وحاولت الربط بينها ربطًا خفيفًا إما بتقديم للآية أو بذكر تفسير مختصر لها.
قلت: وبمعرفة صفات القرآن الكريم الواردة في آياته الكريمة والأحاديث والآثار، وبتدقيق النظر فيها يتجلى لنا فضل القرآن الكريم، ذلك الفضل الذي لم يقتصر على الأمة الإسلامية فقط بل تعداها إلى البشرية بعامة، فالقرآن مصدر الهداية المنزه عن الشك والريب، كيف لا وهو كلام الله الذي قاله بنفسه وأنزله على نبيه محمد ﷺ لهداية الثقلين الجن والإنس، قال تعالى: ﴿آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: ١) . وقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ﴾ (البقرة: ١٨٥) . وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: ٩) .
فأصح طريق وأقومه هو ما هدى وأرشد إليه القرآن الكريم لأنه النور المبين الذي ينير الطريق للبشرية في ظلمة هذه الحياة قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
_________
١ مسند الإمام أحمد بن حنبل ٣/ ١٢٧ و١٢٨. وأورده الألباني في صحيح الجامع تحت رقم ٢١٦٥ وقال: صحيح.
1 / 10
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ (البقرة: ٩٩) . وقال تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ (الحجر: ١) .
ولما له من الأثر العظيم والتأثير البالغ في النفوس ما لبثت الجن حين سمعته أن آمنت به، قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾ (الأحقاف: ٢٩-٣١) .
وقال تعالى مخبرًا عنهم مرة أخرى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنً عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ (الجن:١-٢) .
وانظر إلى أحد فصحاء العرب حين استمع القرآن ماذا قال:"والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه يعلو ولا يعلى عليه".١
لكنه تحت تأثير قومه نكص على عقبيه وافترى على الله الكذب قال الله تعالى في خبره: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ (المدثر: ١٨-٢٥) .
بل ولا أبالغ إذا ما قلت إن عددًا كبيرًا من المسلمين الأوائل كان سبب إسلامهم وهدايتهم سماعهم لآيات القرآن التي انبهروا بها وعرفوا بتوفيق الله لهم أن هذا الكلام وهذه البلاغة والفصاحة لا يمكن أن تصدر عن بشر.
_________
١ تفسير ابن كثير ٤/٤٦٦.
1 / 11
والآيات في وصف القرآن بأنه مصدر الهداية والإرشاد، والقيادة إلى طريق السعادة والسداد كثيرة جدًا، ولكني اقتصرت منها على ما ذكرت. والله ولي التوفيق.
والقرآن كذلك سبب لتنزل رحمة الله على عباده المؤمنين وسبب لمغفرة الذنوب وحصول الأجر والثواب. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: ٢٠٣) . وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: ٥٢) وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (الأعراف: ١٧٠) .
وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء ٨٢) .فالرحمة من أوصاف القرآن فهو سبب للرحمة المتنزلة من الله على عباده المؤمنين، فمن حفظه استحق الرحمة، ومن قرأه استحق الرحمة، ومن تدارس معانيه فكذلك، قال ﷺ: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطَّأ به عملُه لم يسرع به نسبُه" ١.بل والرحمة بالقرآن تتجاوز حفظه وتدارسه بكثير فمن استمع له وأنصت استحق الرحمة قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف: ٢٠٤) . أسأل الله أن يرحمني وإياكم برحمته.
_________
١ أخرجه مسلم برقم ٢٦٩٩.
1 / 12
والقرآن كذلك دلالة وعلامة على الإيمان، فلا يقرأه إلا مؤمن، ولا يهجره إلا فاسق، ولا يبغضه إلا كافر صريح الكفر أو منافق، قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ (البقرة: ١٢١) .
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: ٣٢) . فهولاء التالون لكتاب الله هم المؤمنون حقًا الذين يعبدون الله حق عبادته ويرجون رحمته، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (فاطر: ٢٩) . وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: ١٥٧) والله ﷾ زكَّى هؤلاء بالقرآن وجعله مصدرًا لتزكية نفوسهم حتى تطهر وتسمو، وأرسل إليهم نبيه محمدًا ﷺ ليزكيهم، قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ١٥١) ويؤكد الله هذا المعنى في آية أخرى فيقول: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران:
1 / 13
١٦٤) ويؤكد هذا المعنى مرة ثالثة إذ يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: ٢)
والقرآن كذلك نور يضيء الطريق للمؤمنين وقد سمَّاه الله تعالى نورًا في كثير من الآيات، وهو نور بذاته وسبب لكل نور يحصل لعباد الله المؤمنين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء: ١٧٤) .
وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (المائدة: ١٥،١٦) . وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الشورى: ٥٢) . وقال تعالى آمرًا عباده المؤمنين بالإيمان بهذا النور بعد أمره إياهم بالإيمان بذاته وبرسوله ﷺ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (التغابن: ٨) .
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل القرآن الكريم شفاءً من كثير من الأدواء الحسية والمعنوية قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: ٨٢) . وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ٥٧) . وقال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ﴾ (فصلت: ٤٤) .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الاستشفاء بالقرآن الكريم فعن عائشة ﵂ قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه
1 / 14
جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يديَّ"١.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نَفَرَنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر لنا بثلاثين شاة وسقانا لبنًا. فلما رجع قلنا له أكنت تحسن الرقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلت: لا تحدِثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل النبي فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي ﷺ فقال: "وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم".٢
وكما أنه سبب في شفاء الأمراض الحسية، هو سبب للوقاية من الأمراض المعنوية وغيرها، وسبب في طرد الشيطان الذي هو سبب لكثير من الأمراض، فعن عائشة ﵂: "أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات".٣
وقد ثبت عن أبي هريرة ﵁ قال: وكَّلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام،
_________
١ أخرجه مسلم برقم ٢١٩٢.
٢ أخرجه البخاري برقم ٥٠٠٧.
٣ أخرجه البخاري برقم ٥٠١٧.
1 / 15
فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، قال: إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي ﷺ:
"يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قال: قلت يا رسول الله شكا إليَّ حاجة شديدة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ﷺ: "إنه سيعود" فرصدته فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله ﷺ: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ " قلت: يا رسول الله. شكا حاجة شديدة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه،وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله ﷺ:"ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ما هي؟ " قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. -وكانوا أحرص شيء على الخير-. فقال النبي ﷺ: "أما إنه قد
1 / 16
صدقك وهو كذوب، تعلم مَن تخاطب مِن ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قال: لا، قال: "ذاك شيطان".١
والقرآن تذكرة وموعظة بما جاء فيه من قصص الأمم الغابرة، وبيان ما جوزي به مؤمنها وما عوقب به كافرها، فقد احتوى القرآن على قصص الأنبياء والصالحين وعلى قصص الكافرين والمعاندين فكأنه يذكرنا ويعظنا، يذكرنا بما حصل لهم وبقوة الله وجبروته وقدرته على خلقه، ويعظنا بأن نتبع سبيل الرشد ونبتعد عن سبل الغي والضلال.
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف: ٣) . وقال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ (الإسراء: ٨٩) . وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ (الكهف: ٥٤-٥٥) . وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (يونس: ٥٧) . وقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ (البقرة: ٢٣١) .
فالقرآن موعظة بما ضرب الله لنا فيه من الأمثال وقصص وأخبار السابقين وخاصة الكافرين منهم. والمتدبر للآيات السابقة يلمس أن الله ﷾ ما ساق لنا هذه الأمثلة والقصص إلا لنتعظ ونعتبر، وهذا ما قد صرح به القرآن أحيانًا كثيرة حيث قال تعالى معللًا ذلك: ﴿وَكَذَلِكَ
_________
١ أخرجه البخاري برقم ٢٣١١.
1 / 17
نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام: ٥٥) . ومن تفصيل الآيات ذِكرُ تلك الأمثال والقصص وقد حذرنا الله تعالى من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه، قال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: ٦٣)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (النساء: ١١٥) .
في السياق نفسه جعل الله في القرآن بيان الوعد والوعيد ترغيبًا في إتباع طريق الحق وتحذيرًا من سلوك طرق الغي والضلال قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ (طه: ١١٣) .
ومن فضل القرآن أن يبين الله فيه خبر كل شيء قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: ٣٨) . وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: ٥٢) . وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: ١١١) . وقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: ٨٩) .
ومن عظيم نعمة الله علينا ورحمته أن لم يترك شيئًا مما يهمنا إلا ذَكَرَه في الكتاب فله الحمد وله الشكر.
1 / 18
وبعد أن ذكرت فضل القرآن الكريم وأثره في حياة المؤمنين استحسنت أن أذكر أثره في المعاندين الذين صدوا عنه وأعرضوا، وما نالهم وينالهم من الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى واصفًا حالهم عند تلاوة القرآن عليهم: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الأنفال: ٣١) .وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (لقمان: ٧) . وقال: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (الإسراء: ٤٦) .
وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الأحقاف: ٧) . وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الجاثية: ٧-٨) . فلما تلي عليهم القرآن وأدركوا قوته وَلَّوْا وأعرضوا عنه، وصمُّوا آذانهم، وأعموا أبصارهم، واتهموه بالسحر لماَّ رأوا ما له من التأثير البالغ.
وقال بعد بيان حال المؤمنين وما أعد الله لهم من النعيم المقيم والفوز المبين: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (الجاثية: ٣١) . وقال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الحج ٧٢) . ولكن ليس لهم إلا الحسرة والندامة يوم
1 / 19
القيامة قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (الزمر: ٧١) .
وبعد أن ذكر الله إقرارهم على أنفسهم بالكفر ذكر ندمهم واعترافهم بذنوبهم فقال: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك:١٠-١١) . وقال: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ (المؤمنون: ١٠٥-١٠٨) .
والآيات في ذكر حسرتهم وندمهم يوم لا ينفع الندم كثيرة أكثر من أن أحصيها في هذا البحث، نعوذ بالله من الخزي والخسران.
وبعد أن ذكرت طرفًا من الآيات في فضل القرآن الكريم وفضل قراءته وأثره في حياة الناس رأيت أن أذكر طرفًا من أقوال الرسول ﷺ التي تدل على ذلك، وإليك أخي الكريم فضل القرآن الكريم كما جاءتنا به السنة المطهرة:
القرآن يشفع يوم القيامة لصاحبه، فعن أبي أمامة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" ١. وعن النواس بن سمعان ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يؤتى يوم القيامة
_________
١ صحيح مسلم حديث رقم ١٨٧٤.
1 / 20
بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لها رسول الله ﷺ ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينها شَرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما" ١.
تلاوة القرآن سبب في رفعة الدرجات في جنات النعيم فعن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها" ٢، وعن عائشة ﵂ عن النبي ﷺ قال: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران " ٣.
قراءة القرآن سبب في زيادة الحسنات ورضا الرب ﷾: فعن عبد الله ابن مسعود: قال رسول الله ﷺ: " من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".٤ وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: "يارب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول: يارب زده فيلبس حلة
_________
١ صحيح مسلم حديث رقم ١٨٧٦ وسنن الترمذي ٢٨٨٦.
٢ أخرجه الترمذي برقم ٢٩١٤ وقال: حسن صحيح.
٣ أخرجه البخاري رقم ٤٩٣٧ ومسلم برقم ٧٩٨.
٤ أخرجه الترمذي برقم ٢٩١٠.
1 / 21