هي أن أمريكا لا تكتفي بالإفادة من فوائض الأموال العربية لخدمة مصالحها الخاصة، ولا تكتفي بالامتناع عن الإسهام في أي برنامج شامل يضمن للدول العربية الغنية مستقبلا مأمونا، بل إنها تضع نصب أعينها استنزاف الثروة البترولية العربية في أسرع وقت ممكن، دون أية مراعاة لحاجات البلاد المنتجة، فأية محاولة لخفض إنتاج البترول إلى الحد الذي يتمشى مع المطالب الحقيقية للبلد المنتج، تلقى مقاومة من الطرف الأمريكي؛ لأن ما يحرص عليه هذا الطرف هو سد حاجات الاقتصاد الغربي، وليس مراعاة مطالب المنتجين على الإطلاق.
ولو قيل إن هذا أمر لا مفر منه، لأن في الغرب مصانع لا بد لها أن تعمل، وهي تحتاج إلى كميات يومية هائلة من البترول - لو قيل هذا لقلنا إن هذه حجة غير ملزمة على الإطلاق؛ ذلك لأن الغرب لا يريد أن يغير نمط حياته، الذي ينطوي على قدر هائل من السفه والتبديد، والذي يستهلك فيه المواد الخام في العالم، وليس البترول وحده، إلى حد أصبح يثير قلقا حقيقيا لدى كل من يفكر في مستقبل البشرية بشيء من التعمق. ولقد اشترى الغرب نمط حياته الباذخ هذا، منذ أن كان يملك السيطرة العسكرية إلى أن استعاض عنها بالسيطرة الاقتصادية، على حساب شعوب العالم الثالث. فإذا كانت هذه الشعوب الأخيرة تعيش حياة الكفاف، وتنقصها ضرورات الحياة الأساسية ذاتها، ومع ذلك تظل تعمل وتكافح دون أن تشكو، فلماذا لا تتنازل الشعوب الغربية المترفة عن قدر من رفاهيتها لكي تحقق مزيدا من التوازن بين اقتصاديات مناطق العالم المختلفة؟ الذي يحدث بطبيعة الحال هو أن هذه الشعوب تقبل أي حل - حتى لو كان هو التدخل العسكري ذاته - فيما عدا المساس بمستوى معيشتها المرتفع، ومن ثم فإنها تستنزف، من بين ما تستنزفه، موارد البترول بسرعة تفوق كثيرا ما تحتاج إليه الدول المنتجة ذاتها، وبذلك تكون عاملا معوقا في وجه تنمية هذه الدول.
والحقيقة الثالثة:
هي أن الدول الغربية الصناعية، وعلى رأسها أمريكا، تحرص على أن تنشر في الدول العربية الغنية عادات استهلاكية متطرفة، تحقق لها عدة أهداف، ولكنها تعود على أصحابها بأوخم الضرر: (أ)
فالاستهلاك الزائد يعود على الدول الصناعية الكبرى ذاتها بالنفع المباشر. وكلما انتشرت بين الشعوب العربية الغنية عادات الترف، والشراء بسبب وبغير سبب، وتغيير طراز السلع والأجهزة الاستهلاكية بلا انقطاع، واقتناء أحدث المنتجات أولا بأول، مع التخلص من القديم بلا ثمن، كان معنى ذلك مزيدا من النفع لأصحاب المصانع، ومزيدا من التورط والإدمان الاستهلاكي لدى المشترين. (ب)
والأخطر من ذلك أن هذا الاستهلاك المفرط يفسد أذواق هذه الشعوب ويشوه شخصيتها بالترف الزائد، الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد التبديد، ويساعد على تنشئة أجيال اعتادت سهولة العيش حتى أصبحت تعزف عن بذل أي نوع من الجهد أو المعاناة. ووجود هذه الرغبة الطاغية في الحياة السهلة، التي يأتي فيها كل شيء جاهزا بلا مجهود، يتعارض بطبيعة الحال مع متطلبات التنمية التي ينبغي أن تعتمد فيها الشعوب على نفسها وتبذل في حاضرها جهودا تقيها شر الحاجة في المستقبل. (ج)
وربما قيل إن شعوب الدول الصناعية الكبرى تستهلك بدورها على نطاق واسع، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدانها حماسة العمل وبذل الجهد. ولكن شتان ما بين الحالتين:
فالشعوب الصناعية قد مرت بتجربة الاختراع والإبداع بالنسبة إلى كل ما تستهلكه، وهي قد عايشت التليفزيون منذ أن كان وميضا خافتا على شاشة باهتة إلى أن أصبح أفلاما ملونة وربما مجسمة، وعايشت السيارة منذ أن كانت عربة خيل مطورة إلى أن أصبحت صالونا فاخرا سريعا صامتا. أما الشعوب الغنية المستهلكة في بلاد العالم الثالث، فلا تعرف هذا الإنتاج إلا في صورته النهائية، ولا تتعامل معه إلا عن طريق استعماله فحسب، وهي لم تعايش تجربة اختراع ولم تمر بمعاناة التطوير والتجويد؛ ومن ثم فإن دلالة الاستهلاك عندها، وتأثيره في شخصيتها، مختلفة كل الاختلاف.
من هذه الحقائق الثلاث يتضح لنا أن نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا في الدول العربية الغنية يؤدي بهذه الدول إلى أن تنعم بحلم وردي سريع، ولكنه يترك الواقع الذي سيعقب هذا الحلم دون معالجة على الإطلاق. ومن هنا كان واجب هذه الدول ألا تنساق وراء هذا النمط، وأن تدرك الفوارق بين أوضاع أمريكا وأوضاعها الخاصة، والاختلاف الكبير في نموذج الحياة الاستهلاكية ونتائجها لدى مجتمع تكنولوجي متقدم، ولدى مجتمع يعاني من مشكلات التخلف بالرغم من امتلاكه ثروة مؤقتة. (2) الدول الفقيرة
إذا كان نمط الحياة الاستهلاكية، الذي يفتح الأبواب على مصراعيها لمنتجات البلاد الصناعية المتقدمة، لا يصلح للبلاد العربية الغنية، فمن السهل أن ندرك أنه أقل صلاحية للبلاد العربية الفقيرة؛ فحين تتخذ هذه البلاد الأخيرة من النمط الأمريكي نموذجا، وحين تحاول أن تقلد أسلوب الحياة الأمريكي، متصورة أن هذا الأسلوب سينجح عندها كما نجح في بلده الأصلي، فإنها تقع في وهم كبير، وتسقط في هوة سحيقة قد يكون من الصعب عليها أن تنتشل نفسها منها لأمد بعيد.
अज्ञात पृष्ठ