هذا التناقض يمثل، في رأيي خدعة من أخطر الخدع الفكرية التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث. وعلينا أن نتنبه بكل وعي إلى هذه المغالطة في الوقت الذي يطرح فيه النموذج الأمريكي على الساحة العربية بقوة وإلحاح؛ ذلك لأن مجتمعاتنا ما زالت حريصة كل الحرص على وجود حد معين من القيم الإنسانية والمعنوية، وما زالت تؤمن بأن ما يحرك الإنسان ليس الماديات وحدها (رغم اعترافنا بأهمية الماديات)، وبأن في الإنسان قوى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء. فإذا تقدمت إليها الدعاية الأمريكية على أنها هي التي ترعى هذا الجانب المعنوي في الإنسان، وإذا ظهر بيننا من يبدي إعجابه غير المحدود بالنموذج الأمريكي، فلنقل له: في استطاعتك أن تعجب بنمط الحياة الأمريكية كما تشاء، ولكن عليك أن تعترف بأنك تسعى، في هذه الحالة، إلى إقامة مجتمع مادي بصورة صريحة مباشرة في صميم كيانه، وعليك في نهاية الأمر أن تتحمل العواقب اللاإنسانية المترتبة على هذا الجري اللاهث وراء المادة، وهذا التجاهل التام للجانب المعنوي في الإنسان.
الفصل الرابع
أمريكا وقضايانا السياسية
منذ الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، أصبحت أمريكا طرفا في القضايا السياسية التي تقرر مصير الأمة العربية؛ فطوال الفترة التي سبقت تلك الحرب، كانت هناك قوى عظمى أقدم عهدا، مثل بريطانيا وفرنسا تشغل القدر الأكبر من اهتمام العرب، لأنها كانت تمثل الاستعمار التقليدي، أو قوى منافسة له، تمثل شكلا جديدا من أشكال السيطرة يريد بسط نفوذه على العالم بالقوة العسكرية المباشرة، كألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية. وكانت المشاكل التي تعترض الفكر السياسي العربي إزاء هذه القوى الاستعمارية التقليدية واضحة وبسيطة: فالصراع بين الأمة العربية والدول الكبرى كان ينحصر، عندئذ، في السعي إلى الاستقلال الوطني وإخراج المحتل من الأرض. ومن جهة أخرى فإن المعسكر الآخر، المنافس، الموجود في ذلك الحين لم يكن يقدم نفسه إلى العالم العربي على أنه يمثل نظاما متكاملا للحياة والفكر والسياسة الاجتماعية والاقتصادية، أي على أنه صاحب أيديولوجية تسعى إلى الانتشار عن طريق الاقتناع ثم الاعتناق، بل كان أقصى ما يغري الآخرين أو يهددهم به هو أنه مجتمع عسكري قوي يحشد كل طاقاته من أجل الغزو والتوسع والحصول على مزيد من المجال الحيوي.
على أن تغيرا جذريا قد طرأ على هذه الصورة المبسطة المباشرة منذ الحرب العالمية الثانية. فقد دخلت أمريكا إلى المنطقة بكل ثقلها، وكان تحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار التقليدي من أهم العوامل التي ساعدتها على التغلغل السياسي في البلاد العربية، بل إنها في بعض الحالات ساعدت الدول العربية إيجابيا على تحقيق استقلالها الوطني لكي تزيح الدول الاستعمارية القديمة وتفسح لنفسها مجال التغلغل في المنطقة بأشكال جديدة، ولأهداف جديدة. وفي الوقت ذاته لم تعد القوة المنافسة لأمريكا هي النظم الفاشية التي لا تمتلك شيئا تقدم به نفسها إلى العالم سوى قوتها العضلية - إن جاز هذا التعبير - بل أصبحت أيديولوجية متكاملة، قد تتخذ شكلا معتدلا هو الاشتراكية، أو شكلا متطرفا هو الشيوعية، ولكنها في كل الحالات تقدم نفسها إلى المنطقة باعتبارها بديلا جديدا يقدم حلوله الخاصة المتكاملة للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوطنة في مجتمعاتها. وكان على أمريكا، أمام هذا المنافس الجديد، أن تضاعف من جهدها من أجل صد التيار الأيديولوجي المنافس لها من جهة، وإقناع دول المنطقة بتفوق النموذج الأمريكي وصلاحيته للتطبيق في مجتمعاتها، أو على الأقل تخويفها من الخصم الأيديولوجي إلى الحد الذي يدفعها إلى الاحتماء بأمريكا عسكريا وسياسيا.
وهكذا وجدت الدول العربية نفسها، بعد الحرب العالمية الثانية؛ تواجه خيارا جديدا كل الجدة لم تألفه طوال العهود السابقة التي كان العدو فيها محددا بوضوح، وكانت طرق النضال فيها معروفة ومباشرة. فقد أصبح عليها أن تحدد موقفها إزاء معسكرين متضادين، لم يكن أي منهما يحتلها احتلالا عسكريا مباشرا، ولم يكن المنهج الذي يتبعه والهدف الذي يسعى إليه أي منهما معروفا بوضوح لدى جموعها الشعبية حتى أواسط القرن العشرين. وبعبارة أخرى، فقد وجد العرب أنفسهم يواجهون، لأول مرة، مشكلة الأيديولوجيات التي أصبحت هي الطابع المميز لصراعات القوتين العالميتين الرئيسيتين بعد الحرب العالمية الثانية. وكان جزء كبير من الجهود التي تبذلها أمريكا من أجل التغلغل في المنطقة العربية، يتخذ طابع الهجوم الأيديولوجي على المعسكر المضاد، والتبرير الأيديولوجي لأسلوبها الخاص في الحياة.
ولكن، لماذا سعت أمريكا إلى التغلغل في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية؟ السبب الذي يعرفه الجميع، بالطبع، هو البترول، الذي كان قد ظهر بالفعل في البلاد العربية قبل تلك الحرب، ولكن إمكاناته الهائلة في المنطقة العربية، ودوره الحيوي في مستقبل العالم الصناعي، لم تظهر بوضوح إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعبارة أخرى فإن العوامل التي كانت تدفع الدول الاستعمارية التقليدية إلى احتلال أجزاء من الوطن العربي، كالموقع الجغرافي والسيطرة على طرق برية أو بحرية حيوية ... إلخ، لم تعد تحتل المكان الأول في سياسة الدولة الكبرى التي ورثت الاستعمار التقليدي (وإن كانت تلك العوامل قد ظلت تحتفظ بقدر غير قليل من أهميتها)، وإنما حلت محلها الرغبة في السيطرة على موارد مادة حيوية بدونها يتوقف نبض الحياة في مصانع العالم الغربي، ويوجد أهم مخزون عالمي منها في المنطقة العربية.
على أن أمريكا، في سعيها إلى بلوغ هذا الهدف، كانت تحتاج إلى وسيلة تختلف عن الوسائل التقليدية التي كانت تلجأ إليها الدول الاستعمارية السابقة. وسرعان ما اهتدت إلى تلك الوسيلة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، عندما حللت الموقف في المنطقة العربية وظهرت لها الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها الطموح الصهيوني إلى إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وسرعان ما تبنت قضية الصهيونية، وساعدت بكل قوة إلى إقامة الدولة الإسرائيلية وعلى استمرار وجودها وتوسعها، متخذة من هذه الدولة أهم أداة لها من أجل تحقيق هدفها في السيطرة على المنطقة، وعلى مواردها. •••
وهكذا يتبين لنا، من العرض الموجز السابق، أن بين العرب وأمريكا ثلاث قضايا رئيسية، هي: الاختيار الأيديولوجي، والبترول، وإسرائيل.
وفي اعتقادي أن مناقشة هذه القضايا الثلاث كفيلة بإلقاء الضوء على طبيعة العلاقة بين أمريكا والعرب على المستوى السياسي، ومن ثم فإنها تعيننا على تحديد موقفنا من أمريكا على أسس فكرية أكثر رسوخا. وسوف نناقش هذه القضايا الثلاث بالترتيب الذي أراه منطقيا، فنبدأ بقضية البترول، ثم إسرائيل، وأخيرا الأيديولوجية. (1) قضية البترول
अज्ञात पृष्ठ