इस समय का अरब: बिना मालिक का देश
عرب هذا الزمان: وطن بلا صاحب
शैलियों
وكان على حق ثانيا في رؤيته مظاهر القهر الداخلي في تركية للمعارضين القوميين العرب والأرمن وباقي الأقليات، بعد أن كان نظام «الملة» من قبل قادرا على لم شمل أقطار الخلافة، كما فعل ميثاق المدينة من قبل في جمع العرب حول الدين الجديد. وكان على حق ثالثا في القضاء على مظاهر التخلف من شعوذة وخرافة وسحر وجهل وسيطرة رجال الدين، وتبني النموذج الغربي القائم على العقلانية والإنسانية والتقدم والمجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية والحداثة. وقد كانت هذه قيم الإسلام في عصره الذهبي، والتي أقام على أساسها العمران كما يشهد بذلك إبداع المسلمين في العلوم الرياضية والطبيعية، وآثارهم في الأندلس؛ غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة. وإستانبول مدينة الألف مئذنة مثل القاهرة.
وبعد انقضاء أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الثورة التركية بدأت المراجعة في الاختيار العلماني التركي؛ فلا هي بقيت ضمن العالم الإسلامي، ولا هي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. تعثر الاقتصاد التركي، وأصبحت تركية عضوا بحلف شمال الأطلنطي. وعلى أرضها القاعدة العسكرية الأمريكية «إنجرليك»، والتي تمثل قاعدة للعدوان على الوطني العربي كما حدث في العراق، وربما يتكرر في إيران. وظهرت حركات إسلامية أصولية أو تحديثية تبين أن ارتباط تركية بالإسلام لم يتوقف، وكما بدا ذلك في ظاهرة أربكان وحزب «رفاه»، ثم حزب «الفضيلة»، ثم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الآن.
ومع ذلك ما زالت العلمانية اختيارا مقدسا بنص الدستور، والجيش هو المدافع عنها. وأجيال جديدة تربت على هذا الاختيار ما زالت قادرة على النزول إلى الشوارع والتجمهر والتحزب دفاعا عنها ضد أي مساس بها، أو حتى قراءة جديدة لها بعد مرور أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الاختيار الأول. أصبحت العلمانية الآن تهدد نفسها، وتهدم قيمها بنفسها، وتتخلى عن مبادئها. تحولت إلى علمانية سلفية تدافع عن الماضي أكثر مما ترنو إلى المستقبل.
أصبحت علمانية متوحشة شرسة، تتوعد وتهدد، وتنذر بالانتقام من الإسلاميين كما كان الحال في نهاية عصر الخلافة. صارت علمانية مطلقة مع أن العلمانية اتجاه نسبي، لا يمتلك الحقيقة المطلقة. صارت علمانية إقصائية، تستبعد الاتجاهات الأخرى حتى ولو كانت علمانية نسبية، إنسانية، ثقافية، إصلاحية، أو حتى تراثية؛ أي البحث عن جذور العلمانية في الثقافة والتراث والتاريخ. والدليل على ذلك قضية الحجاب الذي تحجر عليه العلمانية وتقصيه، مع أن العلمانية تقوم على الحرية والاختيار الشخصي واحترام الرأي الآخر؛ فالحجاب أو السفور كلاهما جزء من الحرية الشخصية.
انتقلت تركية في 1923م من خلافة إسلامية إلى خلافة علمانية دون المرور بمرحلة ليبرالية متوسطة تتحول فيها تركية من المطلق إلى النسبي. وهو أكثر اتفاقا مع روح العلمانية.
كان الاختيار العلماني لجمعية الاتحاد والترقي والقومية الطورانية مطلقا مضادا للعثمانية دولة الخلافة، فانتقلت تركية من مطلق إلى مطلق دون الأخذ بالاختيار الثالث، وهو الإصلاح الذي دافع عنه الأفغاني، التغير من خلال التواصل، التجديد دون التقليد، سواء كان التقليد للقدماء أو للغربيين المحدثين. وهو ما حدث أيضا في روسية في نفس الفترة أو قبلها بست سنوات في الثورة الاشتراكية في 1917م، عندما تحولت روسية من مطلق القيصرية إلى مطلق الاشتراكية، من نسق مغلق إلى نسق مغلق مضاد، دون المرور بمرحلة ليبرالية نقدية لتتحرر من ذهنية المطلق؛ فانهار الاختيار الثاني في 1990م كي تمر بمرحلة ليبرالية ديمقراطية جديدة تكون أساسا لأي اختيار آخر رأسمالي أو اشتراكي. وهو ما حدث في أوروبة الشرقية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تحولت من المطلق الكاثوليكي إلى المطلق الماركسي مباشرة دون المرور بمرحلة متوسطة هي النسبية الليبرالية والعلمانية المتعددة. كان يحمي الخلافة في تركية جند السلطان، والآن يحمي العلمانية الجيش الوطني، وفي كلتا الحالتين سيطرة العسكر.
وبرز حزب العدالة والتنمية ليشق طريقا وسطا بين حزب الرفاه و«الأربكانية» والرومانسية الإسلامية التي قرأها البعض عودا إلى نظام الخلافة، وبين العلمانية القحة التي ترفض الحوار، وتتمسك بالاختيار القديم مهما تغيرت الظروف، وكأن الزمن لم يعد له حساب. يناضل من أجل تعددية سياسية وهي روح العلمانية، ومن أجل العودة إلى الشعب وسؤاله عن الاختيارات الرئيسية للبلاد، مثل انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام وليس من خلال البرلمان. والديمقراطية روح العلمانية. ويحاول الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية كما حدث في رفض مرور القوات الأمريكية على أراضيه لغزو العراق من الشمال، في حين قرر بعض الحكام العرب كقرار فردي الاشتراك مع أمريكة بأشكال متعددة في غزو العراق. ويبتعد عن إسرائيل، ويلغي اتفاقيات التسليح معها، ويتقارب إلى العرب خاصة مصر وسورية، ويساهم في عمليات التنمية والبناء في عديد من الأقطار العربية بما في ذلك مصر.
وتشهد تركية بفضل حزب العدالة والتنمية أكبر معدل في خطط التنمية والتصنيع والتحديث؛ فقد كانت سباقة في ذلك منذ «التنظيمات» التي كانت سائدة في القرن التاسع لتحديث المجتمع والدولة والمؤسسات. تصدر أكثر مما تستورد، وتصنع أكثر مما تزرع.
وهي الآن تعي موقعها الجغرافي السياسي كجسر بين الشرق والغرب، بين آسيا وأوروبة كما وعته مصر قديما بالإضافة إلى أفريقية ؛ فتركية ملتقى قارتين، ومصر ملتقى ثلاث قارات. وفتح السلطان سليم الأول مصر في 1517م وامتدادها إلى المغرب العربي حتى الجزائر. كان يضم أفريقية إلى آسيا وأوروبة، وتقوم بدور تركية ومصر في آن واحد. وهو ما حاوله محمد علي من جديد انطلاقا من مصر لتجديد المشروع العثماني. وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي إضافة لها وليس خصما منها لتوسيع حضورها في أوروبة، ولتخفيف التوتر بين الإسلام والغرب، والتخوف من هجرات العرب والمسلمين إلى أوروبة، وانتقال العمالة من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى شماله، وتغير الهوية الأوروبية إلى هوية إسلامية، أو على الأقل إسلامية أوروبية بعد أن أصبح الإسلام هو الدين الثاني في أوروبة بعد المسيحية، ووجود ما يقرب من أربعة عشر مليونا من المسلمين، الأتراك والعرب في أوروبة، ووجود جيلين من الأبناء والأحفاد من مواليد أوروبة وليسوا من المهاجرين كما كان في الآباء والأجداد.
إن بين العرب والأتراك تاريخا مشتركا منذ أكثر من ألف عام منذ دخول الإسلام إلى تركية، والشعب التركي إلى الإسلام. فتحت القسطنطينية، واستمرت دولة الخلافة أكثر من خمسة قرون. لها جوار مشترك مع سورية والعراق.
अज्ञात पृष्ठ