على بعد 35 كيلومترا من هنا. (3)
هذا الرجل يكذب كثيرا ولكن أكاذيبه بيضاء. (4)
لون الحائط أحمر يضرب إلى الصفرة.
ويجب ألا تفرض أنك أخرس تعيش بين ناطقين؛ لأنك في هذه الحال تسمع الكلمات وتعرف أنها رموز لهذه المعاني، ولكن افرض أنك أخرس بين خرس لم تسمع قط كلمة ولم تنطق بها، ففي هذه الحال يستحيل عليك تخيل هذه المعاني؛ ومن هنا نعرف أن اللغة إذا لم تكن هي التفكير نفسه فهي التي تربط معانينا وتسهل تفكيرنا، وهي التي جعلت الوجدان مستطاعا إلى أقصى حدوده الحاضرة في أذهاننا.
و999 في الألف من تفكيرنا؛ أي: من نشاطنا الذهني هو ثقافة موروثة؛ أي: كلمات موروثة. ونحن إزاء المجتمع كالطفل إزاء عائلته، ينشأ رضيعا فيها، ويتعلم منها كلماتها ويتعود عاداتها الذهنية والنفسية من أفرادها، وهو أيضا يعطيها كلمات طفلية، ولكن ما يأخذه من عائلته يزيد ألف ضعف على ما يعطيها من كلمات الطفولة، وهذا شأننا أيضا في المجتمع، قد يعطيه أحدنا كلمة هي ثمرة تفكيره الخاص ولكنه يأخذ من هذا المجتمع نحو عشرين ألف كلمة؛ أي: عشرين ألف معنى.
وهنا أرجو القارئ أن يقرأ كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»، فقد أوردت هناك قصة فتاتين خطفتهما ذئبة، ولكن بدلا من أن تتحرك في الذئبة عاطفة الجوع فتأكلهما، تحركت عاطفة الأمومة فأرضعتهما، فنشأت كلتاهما خرساء، وسلكتا سلوك الذئاب. حتى المشي على الساقين لم تعرفاه، وبعد أن قبض عليهما بقيتا سنوات قبل أن تتعلما السلوك البشري بالكلمات البشرية، فكانت كل كلمة رمزا لسلوك معين.
ومن هنا ندرك أنه ليس تفكيرنا فقط قائما على الرموز اللغوية (الكلمات) التي تحدد وتعين المعاني، بل أيضا سلوكنا الاجتماعي؛ لأن الكلمات التي تتكرر لنا تعين لنا اتجاهات نفسية يتقرر بها سلوكنا.
ومع كل هذا الذي قلنا ليست اللغات كاملة؛ فإن نقائصها - بل رذائلها - كثيرة، وليس هذا عجيبا؛ لأننا ما زلنا في القرون الأولى لاختراعها؛ فهناك مثلا الكلمات الوجدانية الموضوعية، وهناك الكلمات العاطفية الذاتية؛ فإن الأولى نتفق عليها ونفهمها، والثانية نختلف فيها ولا ندري المقصود منها، انظر إلى المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
अज्ञात पृष्ठ