لكن كل مطلع على الفلسفة يعلم أن مسألة المعرفة هي المحور الذي تدور حوله مسائل الوجود، بمعنى أن حلول هذه المسائل تتعين تبعا للحل المرتضى لمسألة المعرفة، ففي تقديم هذه المسألة إظهار للأسباب الأولى التي حدت بكل فيلسوف على سائر آرائه. لما كانت المعرفة الإنسانية تتألف من مدركات تمثل الأجسام، أي مظاهرها المحسوسة مكتسبة بالحواس الظاهرة ومختزلة في المخيلة، ومن مدركات مجردة عن كل عرض محسوس ومكتسبة بما يسمى بالعقل، وكان الفلاسفة متفقين إجمالا على أن المعرفة العقلية (على تضاربهم في طبيعتها وقيمتها) أعلى من المعرفة الحسية وحاكمة عليها؛ انتهت مسألة المعرفة إلى أن تكون مسألة العقل.
فإذا أردنا أن نعرف العقل ريثما نقبل على دراسته بالتفصيل، قلنا إنه قوة في الإنسان تدرك طوائف من المعارف اللامادية. يدرك العقل أولا ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها،
2
ويدرك ثانيا معاني عامة: كالوجود، والجوهر والعرض، والعلية والمعلولية، والغاية والوسيلة، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل. ويدرك ثالثا علاقات أو نسبا كثيرة: كالعلاقة بين أجزاء الشيء الواحد، وعلاقات الأشياء فيما بينها، وعلاقات المعاني التي ذكرناها الآن، والعدد والترتيب. فهذه المدركات غير مادية، فلا ينفذ الحس إليها بحال. وليست العلاقة أو النسبة موجودا واقعيا، وإنما الموجود طرفاها، فإدراكها إدراك معنى غير مادي. ويدرك العقل رابعا ما بدئ عامة في كل علم علم وفي العلوم إجمالا، وليس في التجربة شيء عام. ويردك خامسا وجود موجودات غير مادية، كالنفس والله وخصائصها الذاتية، وذلك بالاستدلال بالمحسوس على المعقول أو بالمعلول على البادي للحواس على العلة الخفية عليها. وسادسا بالاستدلال أيضا يؤلف الفنون والعلوم، مما لا مثيل له عند الحيوان الأعجم مع حصوله على المعرفة الحسية.
ولقضية العقل وجهان: أحدهما وجوده، والآخر قيمة إدراكه إذا كان موجودا. والأصل في الوجه الأول أن فريقا هاما من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة، وأن ما يسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها. هؤلاء يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة، وبالماديين متى دار على الوجود، وذلك لقولهم: لا وجود لغير المادة، ولا معرفة دون الإحساس، ويدعون أيضا بالاسميين أو اللفظيين لقولهم: ما المعاني إلا أصوات في الهواء، أي أسماء أو ألفاظ وحسب. وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماء ذات دلالة واسعة غامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها، فيقولون بالفرنسية:
Entendement ، وبالإنجليزية: “Mind, spirit” Understanding
مما يقابل قولنا: «الذهن» على حد تعريفه بأنه: «قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة».
3
وطبيعي أنه لو صح مذهبهم لعاد البحث في مسائل الوجود إلى تحليلها للكشف عن كيفية تكوينها من الصور الخيالية والعادات النفسية، أي عادت الفلسفة كلها إلى مسألة المعرفة. وقد حدث هذا فعلا من جانبهم، وكان محتوما أن يحدث بناء على مبدئهم. لذا كان أول ما عنينا به إثبات وجود العقل بإثبات أصالة أفعاله ومغايرتها لأفعال الحواس، وكان هذا موضوع الباب الأول.
ما نكاد نضع هذه النتيجة حتى يبرز لنا الوجه الآخر لقضية العقل، ذلك أن العقل قد يكون موجودا ثم يكون أداة غير صالحة للإدراك، فهل باستطاعته الوصول إلى اليقين، أو هو مضطر لتعليق الحكم والتزام الشك؟ هذه مسألة عامة مبدئية تتخصص في ثلاث مسائل؛ الأولى: هل باستطاعة العقل أن يبرر يقينه بإدراكه؟ الثانية: هل باستطاعته أن يبرر اليقين بإدراك الحواس؟ الثالثة: هل باستطاعته أن يجاوز دائرة الوجود الطبيعي إلى ما بعد الطبيعة؟ في هذه المسائل نلقى الحسيين بأدلتهم، ونلقى بنوع خاص طائفة من الفلاسفة نسميهم بالتصوريين؛
अज्ञात पृष्ठ