غير أن كثيرين من المناطقة المحدثين يفهمون الاستدلال بمعنى أوسع من المعنى الذي حددناه، فيقولون إنه مطلق استخراج قضية من أخرى سواء كان ذلك بواسطة أو بدون واسطة. ويذكرون تقابل القضايا وعكسها وتعادلها تحت عنوان «الاستدلال المباشر»، أي الذي لا يلجأ فيه إلى حد ثالث. ونحن نرى أن هذه الحالات لا يوجد فيها استدلال؛ فإن القضية الثانية محتواة في الأولى احتواء صريحا، فليس هناك حقيقتان مختلفتان، وليس هناك من ثمة استنتاج مجهول من معلوم، بل كل ما في الأمر ترجمة عن نفس القضية بصيغة أخرى، كما لو قلنا: «بعض الإنسان كاذب» و«بعض الكاذب إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو طيب الطبع» و«بعض الطيب بالطبع إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو أناني» و«غير صحيح أن بعض الإنسان ليس أنانيا»، فكل قضيتين من هذه القضايا المتقابلة أو المنعكسة تقولان نفس المعنى لا أكثر ولا أقل. ولو كنا نكتب في المنطق لاستقصينا الحالات جميعا استيفاء للتمثيل، ولكنا هنا في غير حاجة إلى التكرار. فليس يوجد استدلال مباشر. (2) تعريف القياس
في القياس بمعناه المحدد الذي هو موضوع بحثنا الآن، يجيء الترابط بين الحدود الثلاثة على هيئات مختلفة، فلكي ندرك ماهية القياس ننظر في هذه الهيئات للوقوف على ما تشترك فيه وعلى ما هو خاص لكل منها، وبذا نمهد للرد على الحسيين. يقال عادة: إن للقياس أربعة أشكال ناتجة من طريقة تأليف الحدين مع الثالث في المقدمتين، فإن الحد الثالث أو الواسطة قد يكون إما موضوع المقدمة الكبرى ومحمول الصغرى، أو محمولا في المقدمتين، أو موضوعا فيهما، أو محمول الكبرى وموضوع الصغرى. هذا صحيح من الوجهة الصورية، غير صحيح في واقع الأمر. وليس الاختلاف في مكان الحد الثالث من الاثنين الآخرين اختلافا عرضيا كما قد يبدو، ولكنه ينطوي على دلالة ذاتية في كل شكل.
وهذه أمثلة على الأشكال الأربعة إيجابا وسلبا تعيننا في تفهم طبيعتها وطبيعة القياس على العموم:
الشكل الأول «كل صالح فهو كريم.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن كل عالم فهو كريم.» ••• «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل عالم فهو صالح.» «إذن لا واحد من العالم بحسود .»
الشكل الثاني «لا واحد من الصالح بحسود.» «وكل طماع فهو حسود.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.» ••• «كل صالح فهو كريم.» «ولا واحد من الطماع بكريم.» «إذن لا واحد من الطماع بصالح.»
الشكل الثالث «كل حكيم فهو حر.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان حر.» ••• «لا واحد من الحكيم بمستذل.» «وكل حكيم إنسان.» «إذن بعض الإنسان ليس بمستذل.»
الشكل الرابع «كل إنسان فهو حيوان.» «وكل حيوان فهو حساس.» «إذن بعض الحساس إنسان.» ••• «كل إنسان فهو حيوان.» «ولا واحد من الحيوان بنبات.» «إذن لا واحد من النبات إنسان.»
فمرمى الشكل الأول أو الغاية المتوخاة منه هو، في حال الإيجاب: البرهنة على ثبوت محمول لموضوع لاشتمال الموضوع على حد مشتمل على المحمول. وفي حال السلب: البرهنة على انتفاء المحمول عن الموضوع. ومعنى البرهنة: بيان علة النتيجة، بحيث لو سئلنا: لم قلنا «كل عالم فهو كريم»؟ أجبنا: «لأن كل عالم فهو صالح، وكل صالح فهو كريم.» وهكذا نجد فيه الحدود منطوية بعضها في بعض، مترابطة ترابطا محكما، ونجد النتيجة مسبوقة بعلتها لازمة عنها. وبناء على هذا يمكن أن نعين له مبدأ من وجهة المفهوم، ومبدأ من وجهة الماصدق: فمن وجهة المفهوم مبدؤه أن «كل ما يقال على محمول يقال أيضا على الموضوع»، كما لو حكمنا على العالم بالصالح، فكل حكم يثبت للصالح ثابت للعالم بالضرورة. ومن وجهة الماصدق مبدؤه أن «ما يقال على كلي فهو يقال على جزئياته، وما ينفى عن كلي فهو منتف عن كل واحد من جزئياته».
ومرمى الشكل الثاني إدحاض دعوى والرد على خصم، لذا هو يتضمن دائما مقدمة سالبة فتجيء النتيجة دائما سالبة، وذلك بالاهتداء إلى حد مناف لموضوع النتيجة فنستنتج أنه مناف للحد الآخر. أعني أن هذا الشكل ينفي محمولا عن موضوع النتيجة بسبب أن أحدهما يشتمل على حد مناف للآخر أو أنه يثبت محمولا لأحد موضوعين وينفيه عن الآخر، فيلزم التباين بين الموضوعين. فمبدؤه مبدأ الشكل الأول، والمقدمة الكبرى فيه كلية مثل كبرى الشكل الأول، فإنها هي التي تقرر أن محمولا ما يتضمن محمولا آخر أو ينافيه، مع هذا الفارق وهو أن المبدأ المشترك لا يطبق هنا بالمشابهة، بل بالمباينة، فإن الشكل الأول يستنتج ثبوت التالي من ثبوت المقدمة، بينما الشكل الثاني يستنتج نفي المقدمة من نفي التالين فيسمى مبدؤه «المقول على المباين».
ومرمى الشكل الثالث معارض قضية كلية بمثال مخالف لها، أي إبطال صدقها صدقا مطلقا لوجود ما يخالفها، وحصر صدقها في جزء فقط من موضوعها. والدلالة بهذه الجزئية على أن وقوع المحمول للموضوع ليس ضروريا، وإنما هو اتفاقي عرضي، فتجيء النتيجة دائما جزئية (موجبة أو سالبة)، كما لو قال قائل: «كل إنسان فهو حر» وأنكرنا ذلك، فإنا نبحث عن حد أوسط تتحقق فيه الحرية، فنقع على الحكيم. ولما كان الحكيم جزءا فقط من الإنسان فإنا نقول: «إذن بعض الإنسان حر» لا كله. لذا يسمى مبدأ هذا الشكل «المقول جزئيا»، وهذا المبدأ تخصيص آخر لمبدأ «المقول على الكل» الذي هو مبدأ الشكل الأول ومبدأ القياس على العموم، وصيغته هكذا: «الحدان المشتملان على جزء مشترك (وهو الحد الأوسط) يتوافقان توافقا جزئيا، وإذا اشتمل أحدهما على جزء لا يشتمل عليه الآخر، فهما يتخلفان تخلفا جزئيا»، ويسمى أيضا: «المقول على مثال»؛ لاعتماده على المثال أو الجزء الخارج للقضية الكلية.
अज्ञात पृष्ठ