وضع روسو هذا الكتاب، وكان من الخطر البالغ أن يجهر الإنسان بأي رأي حر حينما وضعه، وكان روسو جريئا في كل ما أبداه فيه، وفي هذا الكتاب حمل روسو على الرق وعدم المساواة، وناضل عن حقوق الإنسان وأقامها على طبيعة الأمور، وقال إن هدف كل نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كل فرد، وإن الشعب وحده هو صاحب السيادة. وكان يهدف إلى النظام الجمهوري، فتحقق هذا النظام بالثورة الفرنسية بعد ثلاثين سنة حين اتخذ «العقد الاجتماعي» إنجيل هذه الثورة.
ولم يقل روسو بحكومات زمنه لمنافاتها للطبيعة، ويقوم مذهبه على كون الإنسان صالحا بطبيعته، محبا للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجعله بائسا، والمجتمع سيئ؛ لأنه لا يساوي بين الناس والمنافع، والتملك جائر؛ لأنه مقتطع من الملك الشائع الذي يجب أن يكون خاصا بالإنسانية وحدها، فيجب أن يقضى على المجتمع إذن، وأن يرجع إلى الطبيعة، وهنالك يتفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضى به الجميع، فيقيمون بذلك حكومة تمنح الجميع ذات الحقوق، فتقوم سيادة الشعب مقام سيادة الملك، ويتساوى فيها الناس وتنظم الثروة والتربية والديانة.
وفي كتاب «إميل» ظهر روسو الفيلسوف المربي بجانب روسو الفيلسوف الاجتماعي، وقد حاول روسو أن يكفر بكتاب «إميل» عن خطيئته تجاه أولاده - كما قلنا - ويعد روسو بهذا الكتاب مؤسس التربية الحديثة، ففيه ألقى دروسا ممتعة في تربية الأطفال، ومذاهب التربية، والفضيلة والحياة الزوجية، وقد نال كتاب «إميل» من بعد الصيت والأثر ما أصبح معه معول علماء التربية، حتى إن الفيلسوف الألماني الكبير كنت تأثر به كثيرا، وكنت حينما أخذ يطالعه أبى مغادرة منزله إلى نزهته اليومية قبل الفراغ من قراءته، وكنت من تعلم تمسكه بنزهته تلك، وعدم عدوله عنها إلا لأمر جلل.
وقد ألف روسو قصة حياته الخاصة في «اعترافاته»، فوضع الجزء الأول منها سنة 1766، وقد ظهر روسو في هذا الكتاب مثال القاضي المؤرخ العادل النزيه، فلم يكتم شيئا من خطيئاته، ولم يزد في حسناته، ولم تنشر هذه «الاعترافات» إلا بعد موته، وعليها يعتمد في ترجمة حياته.
قلنا إن روسو عاد من جنيف إلى باريس منتحلا البروتستانية، وتعرض عليه صديقته مدام ديبناي في سنة 1756 ملجا في وادي مونمورنسي بالإرميتاج، فيقبله، وهنالك كتب رواية إلوئيز عن حب كان يشعر به نحو بنت أخت مدام ديبيناي، مدام دو ديتو، التي كانت ذات صلة بالشاعر لنبر، وقد كان لهذا الغرام المحزن أثر سيئ في نفس روسو؛ فقد أصبح قاتم الطبع، فقطع اتصاله بمدام ديبيناي، وغادر الإرميتاج ليأوي إلى مونلويس بالقرب من مونمورنسي، إلى هذا المأوى الذي قدمه إليه مريشال لوكسنبرغ، وإلى هذا الدور ترجع نظرياته الاجتماعية وأفكاره الإصلاحية التي أدرجها في «العقد الاجتماعي» و«إميل» وفي رسالته إلى دالنبر عن المسارح، فباعدت هذه الرسالة بينه وبين فولتير ، وألقت بينهما بذور البغضاء، وفي «إميل» هاجم عقيدة الوحي منكرا له مع قوله بوجود الإله، فحكمت عليه جنيف وباريس والبرلمان، فهاجر إلى مونته ترافير في حكومة نوشاتل؛ حيث قضى حياة غريبة وتزيا بزي الأرمن، وحيث وضع في سنة 1764 دفاعا عن «إميل»، ويحمل على مغادرة سويسرة، ويستقر بإنكلترة، بفونون، عند الفيلسوف الإنكليزي هيوم، ويكتب القسم الأول من «اعترافاته»، ولكنه لم يلبث أن ترك هذا الفيلسوف الإنكليزي متهما إياه بالائتمار به مع أعدائه.
ويعود روسو إلى باريس في سنة 1770 بعد طواف في عدة مدن بدوفينه، متنكرا؛ خشية الاعتقال، ويقيم بباريس سبع سنين غير واثق بأحد متمتعا بجمال الطبيعة في ضواحيها، ويكسب عيشه من نسخ قطع من الموسيقا، ويبتعد عن الناس والأصدقاء، ثم يترك استنساخ القطع الموسيقية عن ضعف وعجز فيغدو معوزا إلى الغاية.
وفي السنة الأخيرة من حياته يقدم إليه صديقه دو جيراردن ملجا في إرمنونفيل البعيدة من باريس نحو عشرين كيلومترا فيقبله، ويموت فجأة بعد ستة أسابيع من انزوائه في هذا الكوخ، وكان ذلك في 3 من يوليو
3
سنة 1778، تاركا هذه الحياة وما فيها من أحزان وآلام - ويظن على غير حق أنه مات مسموما أو منتحرا بطلقة فرد - ويدفن بجزيرة الحور في إرمنونفيل.
ويرقد في هذه الجزيرة حتى سنة 1794، وفي 20 من فنديمور من السنة الثالثة (11 من أكتوبر
अज्ञात पृष्ठ