وإذا كنا لا نرى عند سوانا تلك اللهفة كلها على السلطة، أفلا يكون من حقنا أن نسأل لماذا كانت تلك هي حالنا في تقويم القيم؟ لقد أشار «هيجل» في فلسفته للتاريخ إلى أن مراحل التطور بالنسبة إلى «الحرية» كانت ثلاثا: في المرحلة الأولى، عندما كان الشرق هو على رأس الحضارة، لم تكن الحرية إلا لشخص واحد، هو الحاكم، وأما ما دون ذلك فقد كانوا جميعا يمنحون من الحرية ما يقضي به الحاكم، إذا شاء أعطاها وإذا شاء استعادها، وأما المرحلة الثانية في سير التطور التاريخي، فقد أصبحت الحرية حقا لفئة قليلة، وبقية الناس عبيد لهؤلاء، ثم جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة وهي أن أصبحت الحرية حقا لكل الناس في بعض الشعوب، وإني لأتساءل: أيكون التعليل لتلك اللهفة المجنونة على السلطة في حياتنا هو أننا لم نبلغ بحق تلك المرحلة الثالثة التي بلغتها بعض الشعوب، وأن الحرية إن هي في واقع الأمر إلا امتياز يتمتع به من ظفر بشيء من السلطة، وأن حريته إنما تكون على قدر ما ظفر، لست أدري.
أم يكون التعليل شيئا آخر، قائما على أساس فكرة أخرى غير فكرة «هيجل» التي ذكرناها، وذلك أن شهوة السلطة تتعالى مع الإنسان بحسب درجة ارتقائه وتحضره في ثلاث درجات أيضا: أدناها أن تتجه تلك الشهوة بصاحبها نحو التسلط على بني قومه أنفسهم، وأوسطها أن يعف المتسلط عن ممارسة شهوته تلك مع بني قومه، لكنه يصب عذابها على من استطاع أن يتحكم فيهم من أبناء الشعوب الأخرى، وأعلاها أن يكف المتسلط عن الاتجاه بسطوته نحو أحد من البشر، سواء أكان من مواطنيه أم كان من الغرباء، ثم يتجه بقوته تلك نحو «الطبيعة» كما شاء وبما استطاع، فيملي عليها سلطانه بأن يكشف عن أسرارها ويعرف قوانينها، فيلجمها ويستخدمها في صالح البشر، وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل نقول إننا ما زلنا من تلك المراحل الثلاث عند أدناها.
وإذا كنا كذلك وأدعو الله ألا نكون، يظل السؤال قائما: لماذا؟ وفي هذه الحالة يسهل علي الجواب، وهو أن أيسر السبل لتحقيق أهداف الإنسان هي أن يلجأ نحوها إلى قوة الساحر التي قوامها التماس النتائج من غير أسبابها، والمتسلط يمكنه «بشخطة» واحدة أن يظفر من المشخوط فيه بما أراد، وإذا كانت قوة الساحر هي أهون السبل في تحقيق المنافع، فإن أصعبها هي قوة العلم، فما الذي يضطرنا إلى ركوب الصعب، إذا كان السهل ممكنا؟ ومن ذا يبيع سمسما مقشورا، بسمسم غير مقشور، كما قال ابن المقفع؟
الفصل السادس والعشرون
نريدها صحوة واعية
إخلاصي للقارئ، ورغبتي الشديدة في أن أكون صادقا معه في كل حرف أكتبه ليقرأه، يجعلانني أشركه معي في الحيرة إذا كنت في حيرة، وفي الشعور بطمأنينة اليقين، إذا كنت على يقين، بل أشركه فيما هو أخطر من ذلك. فإذا كنت أعلم أنني لست أقف - في موضوع ما - على أرض ثابتة، بمعنى ألا أكون على معرفة مقطوع بصوابها في ذلك الموضوع، لكنني في الوقت نفسه أشعر بأن لدي لمحات عنه؛ بدت لي وكأنها صحيحة، وأنها إذا صحت كانت لها أهمية لي وللناس، بادرت بتحذير القارئ منذ الأسطر الأولى، ليكون على حيطة فيما يأخذ عني وما يدع، وما أكثر ما لقيت العنت بسبب ذلك، إذ يتخذ خصومي من ذلك الصدق سلاحا يسددونه إلى صدري، فيقولون: انظروا إلى رجل يكتب فيما لا يعرفه وإنه ليعترف بذلك علنا.
وإنما قدمت حديثي هذا بهذه الكلمات لأني أشعر إزاء موضوعي بشيء من الحيرة، ورأيت أن أشرك القارئ معي في حيرتي، لكي نسير معا بعد ذلك خطوة خطوة ، فهو وأنا بمثابة اثنين أرادا السير في غابة، لم يسبق لهما أن اخترقاها، فهما لا يعرفنا عن دخائلها شيئا، ومع ذلك فهما يشعران بالرغبة في اختراقها ولا يدريان على سبيل اليقين ماذا عساهما مصادفين من عقبات.
وأبدأ من البداية فأقول إنني «أحس» خللا في حياتنا الراهنة، وأنا - كما يعلم القارئ عني - معني بالجانب الثقافي من تلك الحياة، قبل عنايتي بأي جانب آخر، فلا أنا من رجال الاقتصاد؛ لأعرف كيف يجيء المال وكيف يذهب، وأكتفي من كل ذلك بأنني «أعيش» - بحمد الله - في غير عسر ولا ضيق، ولا أنا من رجال السياسة الذين جعلوا منها سلما للصعود (أو للهبوط كما تشاء لهم الخطوط) بل إني منذ خرجت من مرحلة المراهقة وضبابها، ألفيت نفسي مشدودا إلى ذلك الشيء الغامض الذي يسمونه «ثقافة» مضافا - بالطبع - إلى مهنة أرتزق منها، وكانت تلك المهنة لحسن الحظ ذات صلة أو صلات وثيقة بما يسمى ثقافة، ألا وهي مهنة التعليم، وإذا قلنا التعليم فقد قلنا بالضرورة العلم وتحصيله، بل والمشاركة في إنتاجه وفي الإضافة إليه بقدر المستطاع، وكان ذلك هو طريقي في الحياة منذ عرفت نفسي، فإذا بدأت بقولي إنني أحس خللا في حياتنا الراهنة؛ كنت أقصد بذلك أول ما أقصد الجانب الثقافي من تلك الحياة، وبذلك الإحساس الغامض نفسه أجدني وكأني أرى النقيضين يلتقيان معا، ففي تلك الحياة صحوة لا شك في وجودها، وفيها كذلك نقص في الوعي لا شك في وجوده أيضا، فما حقيقة حياتنا إذن؟ ومصدر سؤالي هذا هو أنه إذا كانت صحوة فلا بد أن يصحبها ويحيط بها وعي، وإذا كان الذي هناك هو غيبة للوعي أو لجانب منه فكيف جاءت الصحوة؟ وبأي معنى جاءت؟ لم يبق أمامنا إلا أن نقول إننا حين استيقظنا لم تكن اليقظة كاملة، ومع اليقظة المختلطة بظلال من بقايا نعاس يجيء القصور في الوعي.
ذلك كله هو ما أحسه، وأعني بذلك أني أشعر به شعورا مبهما لم ينتقل معي إلى مرتبة المعرفة العقلية الواضحة، وذلك هو أول الوعي ، ومن هذه البداية أريد القارئ أن نتعاون معا على اكتساب الرؤية الواضحة، وأول ما نبدأ به هو أن نبحث من أي نوم جاءت اليقظة؟ والجواب الذي أقترحه لأني لا أرى جوابا سواه هو أن فترة النوم التي نشير إليها عندما نقول عن أنفسنا إننا «صحونا» هي الثلاثة القرون التي سبقت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، أي قبل بدء القرن التاسع عشر بعامين، وهو رأي قد لا يأخذ به آخرون، وموقفي من هؤلاء هو موقف المتسائل المتعجب: من أين يا ترى يريد هؤلاء أن يبدءوا اليقظة المصرية أولا والعربية ثانيا؟ إنني اذكر أن الفصل الأول من «الميثاق» الذي كنا أصدرناه في أوائل الستينيات قد خصص لدحض هذه الفكرة، فكرة أن ما قبل الحملة الفرنسية كانا نعاسا ثقافيا، زاعما أن الأزهر كان في القرن الثامن عشر في حركة علمية نشيطة؟ فأردت أن أقطع الشك بيقين ورجعت إلى ما استطعت الرجوع إليه من مصادر، باحثا عن العلماء الذين اضطلعوا بذلك النشاط، من هم، وماذا أنتجوا من فكر «جديد»، فوجدت قوائم بأسماء يتلوها أسماء، ومع كل اسم لم أجد من ضروب النشاط العلمي إلا شروحا وتعليقات وملخصات لمؤلفات القدماء، ومعنى ذلك أن علماء القرن الثامن عشر درسوا ما كان هناك من تراث، لكنهم لم يضيفوا إليه جديدا، فإذا رأينا شيئا جديدا دخل في حياتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك الجديد هو بداية اليقظة الثقافية، وكانت البداية التي يحق لنا أن ننسب إليها تحريك العقل بنشاط جديد، هي قدوم الحملة الفرنسية ومن صحبها من مجموعة العلماء.
ومن تلك البداية سرنا في خطوات تصيب وتخطئ، فكان ما كان من تعليم أخذ يتسع ويتنوع، ومن إحياء للتراث القديم بدأناه منذ الطهطاوي، ومن ترجمة عن اللغات الأوروبية، وسفر للبعثات العلمية المصرية إلى أوروبا واستدعاء لعلماء الغرب ليشاركونا فيما كنا بصدد إنشائه من جوانب حضارية وثقافية، وما يتفرع عنها من ألوان النشاط، تلك - إذن - كانت الصحوة وما سبقها من فترة ركود، وحتى إذا نحن لم نتفق على بداية تلك الصحوة من أين جاءت وكيف جاءت؛ فذلك في الحقيقة لا يهم كثيرا فيما نريد عرضه هنا؛ لأننا على أية حال متفقون على أن يقظة عقلية بدرت معنا بوادرها منذ أوائل القرن الماضي، لكن موضع الأهمية هو ما قد صحب تلك اليقظة من «وعي»، فإذا نحن أخذنا هذه الكلمات بما كان يجب أن تعنيه، قلنا إن اليقظة لا يكون لها معنى إلا إذا كان الوعي جزءا من معناها، وهنا تبرز أمامنا المفارقة الغريبة التي أردت أن يشاركني القارئ في حل لغزها، وهي أن يقظتنا آلت إلى حالة لا يحيط بها من شعلة الوعي ما يتناسب مع عمرها الذي جاوزت به قرنا ونصف قرن.
अज्ञात पृष्ठ