لقد كان من أروع ما لفت أنظارنا إليه، من حيث القوة الإبداعية في فطرة الإنسان، فيلسوف اللغة الرائد في عصرنا هذا «نوام تشومسكي» أن الطفل منذ المرحلة الأولى لتعلمه اللغة لا يقف عند حرفية ما يسمعه من الذين حوله، بل هو لا يلبث حتى يأخذ في التصرف الحر فيما قد سمعه، فقد تعددت التحليلات ووجهات النظر عند فلاسفة اللغة - والمعاصرين منهم بوجه خاص - فمنهم من يذهب إلى أن الطفل لا يعدو أن يحاكي ما يتلقاه من مفردات وتراكيب لغوية، فيتساءل تشومسكي - بحق - كيف إذن يتاح للطفل، بعد قليل جدا من بدء تعلمه للغة، أن يعيد «المعنى» المعين بعدة صور للعبارة التي سمعها تعبر عن ذلك المعنى؟ فمثلا قد يسمع من يقول له: فلان أخذ لعبتك، فترى الطفل بعد ذلك يردد ما سمعه، ولكن بصور أخرى، إذ قد يقول: لعبتي أخذها فلان، أو لعبتي فلان أخذها، وهكذا إلى ما لا نهاية، ويطلق تشومسكي على هذه الخاصية «الإبداعية» في القدرة اللغوية، ثم يستطرد في تحليلاته العميقة الدقيقة، ليبين أن من أهم ما يميز الإنسان في مجال اللغة، هو سرعة اكتسابه ذوقا خاصا في لغته، بحيث يعرف ابن اللغة ما يجوز وما لا يجوز استعماله من تراكيب لغوية، ومن هنا نرى الفرق بين ابن اللغة وبين الأجنبي الذي يتعلم تلك اللغة، فبينما ترى ابن اللغة قادرا على تنويع التراكيب للمعنى الواحد بتذوق لغوي يفرق به بين ما يصح وما لا يصح، ترى الأجنبي الذي تعلم تلك اللغة مقيدا بما سمعه أو قرأه، دون أن يكون له - إلا بعد ممارسة طويلة - ذلك الذوق اللغوي الذي يمكنه من التصرف المبتكر في حدود ما يجوز قوله عند أهل اللغة الأصليين. وبهذه المناسبة أروي قصة كنت سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه أرسل نسخة من كتاب له - لعله كان «ضحى الإسلام» - إلى أحد المستشرقين الكبار، فأرسل إليه الرجل خطابا باللغة العربية يشكره على الهدية، خاتما ذلك الخطاب بعبارة يقول فيها: «أدامك الله لننتفع من خرارة علمكم»، فلم يكن له ذوق اللغة الذي يعرف به متى يجوز استخدام كلمة «خرارة»؛ إذ هي عنده كلمة مشتقة من الفعل «خر» ولا شيء أكثر من ذلك.
ولهذه القدرة الإبداعية التي أشار إليها تشومسكي في مجال اللغة، علاقة قوية - فيما أرى - بموضوعنا الذي نتحدث عنه، وهو وجوب أن يكون لكل عصر طابعه الخاص الذي يميزه من أسلافه، فإذا كنا قد أخذنا اللغة العربية عن أسلافنا، وليس لنا بديل آخر سوى أن تكون هي لغتنا التي نفخر بها ونفاخر، فلا بد لنا كذلك أن نمارس فطرتنا البشرية في الإبداع اللغوي، بحيث تجيء عبارتنا وقد تميزت بمذاق خاص، كما تميزت اللغة في العصر الأموي، أو العصر العباسي، عنها في العصر الجاهلي، مع أن اللغة في كلتا الحالتين هي هي، تلتزم قواعد معينة، لكن كان لكل عصر ذوقه المتميز.
معجزة الحياة في إبداعها، سواء أكان ذلك الإبداع - في المجال الإنساني - على مستوى الأفراد أم كان على مستوى الجماعات، وإن حيوية الإنسان في شتى جوانب حياته لتقاس بمقدار ما أبدع، أعني بمقدار ما أضافه من ناتج جديد، أما الذي يحيا حياته محاكاة لحياة غيره - من السلف أو من الخلف على حد سواء - فهو إنما يحيا صورة باهتة لأصل كانت له قوته عند صاحبه.
لكن هذا القول لا يعني أن يقوم الفرد أو الجماعة كل صباح، ينقض كل ما تم غزله على أيدي سواهم، ليغزلوا هم الخيوط من جديد، لكي يقال إنهم مبدعون، بل يعني أن يضع الإنسان بين يديه - فردا أو جماعة - ما استطاع أن يضعه من تراث السلف، ومن إنتاج المعاصرين، ليتمثل من هذا كله ما وسعت قدراته الهاضمة أن يتمثل لكي يعود فيخرج منه إبداعا جديدا، فهذا هو ما حدث في كل حياة ثقافية ناهضة عندنا أو عند غيرنا، ولك أن تراجع في روية وأناة ما صنعه العرب الأقدمون، إبان القرنين الثالث والرابع بالتاريخ الهجري «التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي»؛ لترى كيف كان على أطراف أصابعهم معظم ما أنتجته الإنسانية قبل ذلك من فكر وكل ما أنتجه أسلافهم العرب في العصر الجاهلي، ليكون هذا كله ماثلا أمام عقولهم وقلوبهم، لا ليحفظوه حفظا أصم، ويعيدوه مكرورا بحروفه كالببغاوات؛ بل ليتمثلوه ولينتجوا هم بعد ذلك نتاجهم الأصيل، مشبعا بذلك الزائد الوفير، ومعبرا في الوقت نفسه عن ذوات أنفسهم، وإذا أردت مثلا آخر، فراجع كذلك ما صنعته النهضة الأوروبية إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعندئذ ترى الصنيع نفسه، فلقد كانوا على إلمام واسع ودقيق بما تركه الأسلاف - أسلافهم اليونان والرومان، مع أسلافنا العرب - لا ليحفظوه حفظا أصم «وأقولها للمرة الثانية»، بل ليمزجوه بخبراتهم المباشرة، ليخرج لهم بعد ذلك كله ثمر جديد.
ولماذا لا نضيف إلى تلك الأمثلة التاريخية الكبرى، مثلا محليا من حياتنا نحن خلال المائة العام الأخيرة، فيما قبل هذه المرحلة الراهنة التي نجتازها، فقد كنا على وعي شديد بضرورة أن نلم أوسع إلمام ممكن بتراثنا وأوسع إلمام ممكن بما ينتجه الغرب؛ ليمتزج الرافدان في نهر واحد، نملأ أكوابنا منه، فإذا نحن قد أصبحنا أكثر قدرة على إبداع شيء جديد.
إن أفتك ما يفتك بالطاقة الإبداعية في أصحاب المواهب، هو أن توضع أمامهم نماذج العباقرة من أسلافنا وأسلاف غيرنا، لا ليستلهموها جديدا يبدعونه هم، بل ليضعوها من أنفسهم موضع التقديس فيجلسوا أمامها فاغري الأفواه من دهشة الإعجاب، إنهم في هذه الحالة ليكونون أشبه شيء بمن جلسوا في مسرح يشاهدون رواية عظيمة التأليف يقوم بتمثيلها كبار الممثلين القادرين، أما هم - أعني المتفرجين - فجالسون في الظلام، وأما الممثلون فهم وحدهم الذين تنصب عليهم الأضواء القوية، فيخرج المتفرجون آخر الأمر وقد كادوا ينسون أنهم أحياء؛ إذ لم يعد يملأ خيالهم إلا من شاهدوهم من الأبطال.
كان للفيلسوف البريطاني «هوايتهد» في ذلك ملاحظة لطيفة، إذ سئل مرة : لماذا أخرجت جامعة كيمبردج عددا أكبر ممن أخرجتهم جامعة أكسفورد من أدباء وشعراء، مع أن المعروف هو أن كيمبردج تغلب عليها نزعة العلوم، في حين تغلب على أكسفورد نزعة الآداب؟ فأجاب هوايتهد «وهو نفسه خريج كيمبردج في العلوم الرياضية» قائلا: إن علة ذلك هو أن دارس الآداب في أكسفورد توضع أمامه نماذج العمالقة من الشعراء والأدباء في جو يوهمه بأن هؤلاء العمالقة كقمم الجبال العالية التي يتعذر الوصول إليها، فيحدث أن تشل في الدارس موهبته إذا كان من أصحاب المواهب. وأما دارس العلوم في كيمبردج إذا تصادف أن كانت له موهبة الإبداع الأدبي، فإن موهبته تنمو وتبدع دون أن تعرقلها العراقيل.
أليس مما قد يفيدنا أن نسأل: لماذا كثرت العبقريات العربية في شتى ميادين الفكر والأدب إبان القرون الخمسة الأولى من التاريخ الإسلامي، لتقل بعد ذلك بصورة تلفت النظر؟ ففي تلك القرون الخمسة ظهر أعظم الفقهاء على الإطلاق، وأعظم الفلاسفة وأعظم علماء اللغة، وأعظم الشعراء وأعظم الناثرين، وعدد ملحوظ من أعظم المتصوفة ومن أعظم النقاد ومن أعظم رجال العلوم الطبيعية، ثم جاءت بعد ذلك قرون أربعة غلب عليها «التجميع»، أعني تجميع ما كان قد أبدعه عباقرة الفترة السابقة، وأما بعد ذلك فتكاد لا ترى إلا تكرار المحاكاة.
وقد يكون التعليل لتلك الظاهرة هو أن عباقرة القرون الخمسة الأولى لم يكن لهم سابقون من أسلافهم، بلغوا من الضخامة في ميادينهم حدا من شأنه أن يخيفهم، بحيث يؤثر في ثقتهم بأنفسهم، اللهم إلا في ميدان واحد، هو ميدان الشعر؛ إذ لبث الشعر الجاهلي هو الذي يقيم للشعراء مقياس فحولة الشعر، ولهذا أبدع عباقرة القرون الخمسة الأولى ما أبدعوه وهم أحرار من المعوقات النفسية، وأما بعد ذلك فكلما نشأت موهبة في أي ميدان كان لسان الحال كأنه يصيح في وجه الموهوب قائلا: أين أنت من هؤلاء؟! فتضعف قواه وتفتر همته.
وبعد هذا الذي قدمته فلننظر إلى المرحلة الراهنة التي نجتازها، ولست أظن أن المتتبع النزيه لحياتنا الفكرية يستطيع أن يتغافل عن شيء من شلل المواهب في ميدان الفكر الاجتماعي؛ إذ علت الصيحة التي تنادي بأن يكون لنا من نماذج الماضي وحدها مصادر الهداية، أما في غير هذا الميدان فقد تركت للمواهب حرية الإبداع إلى حد معقول، فأمكن فيها أن نساير الزمن بعض المسايرة، ففي ميدان السياسية نتحدث عن أفكار ونظم لم يكن للسابقين عهد بها، وفي ميدان التعليم نتحرك في إطار ليس هو الإطار الذي كان فيما مضى يقام فيه التعليم، وفي مجالات الفن والأدب نشأت صور جديدة جاءت في معظمها صدى لما نقلناه عن الغرب، وفي ميادين العلم والصناعة وغيرها وغيرها، سايرنا العصر بالقدر الذي سمحت به قدراتنا وظروفنا، إلا ميدان الفكر الاجتماعي، فبعد أن استطعنا في النصف الأول من هذا القرن أن نزيح عنه جانبا من القشرة الجامدة التي كانت تغلفه وتسد عليه الطريق، عدنا بعد هزيمة 1967م بصفة خاصة إلى الحيلولة بينه وبين روح العصر، وقد يكون في هذه العودة شيء كثير من الرغبة في تحصين هويتنا حتى لا تنهار جدرانها، فتنجرف في تيار غيرها، فتضيع، لكن هذا الفرض نفسه حتى لو صدق؛ لا يمنع أن يكون مجال الفكر الاجتماعي عندنا قد جمد، بل تراجع إلى الوراء بخطوات سريعة، ويخشى أن يكون للتخلف في هذا الميدان الحيوي أثره في الحد من قوة الإبداع فيه وفي غيره، ونصبح كالدمى، لا تحركها أيدي الأحياء، بل يحركها سحر الموتى.
अज्ञात पृष्ठ