ومن قال إن شغل المنصب الإداري هو «ترك» للكتابة؛ إن الكتابة لا يتركها الإنسان مطلقا، إنها معه اينما كان وسار، صار، عمل، إنها خاصيته. أما أن يعمل أو يكافح أو يسجن أو يسافر أو يعشق، فتلك أشياء لا بد له منها كي يعيش ويوجد، على الكاتب أن يوجد أولا، أن يوجد كمواطن مثله مثل غيره من المواطنين، أن يكون له موقف، أن يكون له عمل، أن يزاول حياته الروحية والجسدية كاملة، وبعد هذا إذا كتب كان بها، وإذا استطاعت هذه المشاغل الأساسية أن تمنعه عن الكتابة فمعنى هذا أن الكتابة ليست أصيلة فيه، فلا شيء يستطيع أن يحول بين الكاتب الأصيل والكتابة سوى الموت. وحين أقول الكتابة، فإنما أعني الحياة ككاتب عليه ليس فقط أن يكتب وإنما أن يقرأ أيضا ويعرف ويقود.
أولئك الإخوان والأصدقاء الذين سخروا من فكرة أن أعمل أو بمعنى أشمل أن يعمل الكتاب والفنانون مثل الصديق الدكتور لويس عوض، الذي أصر مرة على أن يأتي لمكتبي «ليتفرج» على يوسف إدريس - على حد تعبيره - وهو يقوم بعمل إداري، إنما كانوا جميعا كالأب المشفق على ابنه دائما أن يفعل أي شيء آخر سوى أن يستذكر دروسه مخافة أن يرسب في الامتحان أو يكف عن الكتابة. الكاتب في رأيهم معناه قلم وورقة، مثلما أن التلميذ معناه مكتب وجلسة وكتاب، وأي عمل خارج عن هذا هو عبث لا طائل من ورائه. لا يا سادة، الكتابة ليست قلما وورقة، الكتابة حياة كاملة، وموقف من الحياة، وصراع مرير وعمل، وعرق، ومعايشة للحياة والدنيا، لا كمتفرج وإنما كمشارك لمواطنيه في معركة انتزاع القرش من فم الكفاح اليومي الشاق. الكتابة عندي وأصر على كلمة «عندي»؛ فلكل «شيخ طريقته»، أن أعيش الحياة، بكل ذرة من كياني وقدرتي، أعيشها كساكن يدفع الإيجار، ويستخرج بطاقة التموين ويلعب عشرة طاولة، ويسافر ليلتحق بجيش التحرير الجزائري، ويزاول عملا يوميا مثله مثل أي رب أسرة ، ومن عصارة هذا كله تتفتح له سبل الخيال أو الحقيقة. ويكتب.
حرية الكاتب أن يكتب = حرية أن يرسم حياته
كل المشكلة أني ممن يؤمنون بحتمية المسئولية الفردية في إنجاح أي تنظيم أو مؤسسة أو قطاع، وفي مقابل هذا لا بد من منح حرية التصرف ثم المحاسبة. حرية من ناحية ومسئولية من ناحية أخرى. ولقد قضيت في وزارة الثقافة أكثر من سبعة شهور، خرجت منها بنتيجة كان من المستحيل علي أن أحظى بها لو كنت قد استمعت لآراء الآباء اللويس عوضين المتصورين الكاتب تصور الوالد للتلميذ.
وسيأتي اليوم حتما ذلك الذي أكتب عن هذه التجربة فيه ومستعد ساعتها أن أحاسب ككاتب.
فليترك لنا حرية أن نعمل أو لا نعمل، نتفرغ أو لا نتفرغ، ولنحاسب في النهاية على ما نكتبه، وليس مهما أبدا أن تحاسبني على الطريقة، الحساب في الكتابة مثلها مثل أي عمل آخر، بالنتيجة. فلو أني أصغيت لنصح الأصدقاء، وبالذات نصح هؤلاء الأصدقاء الذين يعملون فعلا ثم يوصونك بألا تعمل، لما أمكنني أن أمضي هذه الشهور السبعة رابضا في قلب ذلك «الليفياثان» الهائل المسمى بالحكومة، متأملا له من الداخل تأمل بطل دستوفسكي لأحشاء الحوت الداخلية حين ابتلعه الحوت، ولما أمكنني أن أرى هذه الآلة الجهنمية المسماة بالروتين، وهي، ببطء سلحفائي أميري شديد، تعمل وتلتهم وتهضم، حتى الثورات تهضمها، كيف كان باستطاعتي أن أحظى بهذا كله، وهي أشياء لا تجدها في كتاب ولا يمكن أن تخطر على ذهن بشر.
مهمتنا تكسير المجاديف
ونحن في بلد الناس فيه شديدو الاهتمام بالآخرين. تسأل إنسانا في الشارع عن منزل ما، فيتجمع عشرة في ثانية ليسألوك ويلحوا عليك: عايز إيه؟ عايز مين؟ وعايزه ليه؟ وكأن - من كثرة الفراغ - لا عمل لنا إلا البحلقة والتأمل وتمزيق الحجب عن حياة الآخرين، ونحن في بلد كل منا ولي أمر الآخر وناصحه وضيف «برنامج رسالة» مستمر له، حتى أصبح الواحد بحكم العادة لا يجرؤ أن ينفذ فكرة عنت له، حتى في أشد المسائل خصوصية كالزواج أو أحيانا بل بالذات في الطلاق إلا بعد أن يستشير عشرة وربما عشرين من أقرباء وأصدقاء ومعارف، وتكون النتيجة في الغالب أن يكسروا مجاديفك حتما، وبدلا من أن تغامر مرة فتظفر بغنيمة أو بمعرفة أو بالميت بتجربة فشل مفيدة، تهبط عزيمتك وتتحول إلى كائن لا يعرف أن يفعل إلا ما تواضع على فعله الآخرون واتفقوا عليه، إلا أن تفعل أسلم الأفعال وأكثرها أمنا ودعة؛ أي لا شيء بالمرة. تكون النتيجة، أن يموت فيك أهم ما يميز الكائن الحي الإنسان، روح المغامرة والتحرر، روح التطلع، روح السعي وراء ما يصوره الخيال لتحيا وأنت تحيل أحلامك إلى واقع. وتلك هي الحياة، إما أن تحيا الحياة كما مضغها الآخرون ولاكوها وعجنوها وخبزوها، إما أن تحيا حياة خارجة كالجثة الهامدة من تحت النصائح والإرشادات والمواعظ، فهي حياة الموت أحسن منها وأرحم، على الأقل باعتبار الموت تجربة فذة جديدة.
أتمنى لو أن كل من خطرت له فكرة واقتنع بها أن ينفذها في الحال دون أن يراعي، وماذا سيحدث يعني لو ثبت أنها كانت خاطئة؟ هل ستنقلب الدنيا؟ هل ستقوم القيامة؟ أبدا والله، فإنه على أسوأ الفروض لو فشلت ستكون قد ظفرت بتجربة فاشلة عظيمة؛ لأن التجربة الفاشلة هي المقدمة الطبيعية للتجربة الناجحة؛ إذ الفشل نجاح مؤجل. تخيلوا واحلموا ونفذوا ولا يهمكم ماذا سيقول فلان أو علان، فليذهب قولهم إلى الجحيم، فأنت لو سمعت كلام الآخرين لن تتحرك، أما لو تحركت ونجحت فستتحول نفس أقوال الآخرين إلى قصائد مديح تدبج لك. وأنا مثلا، لو خرجت من عملي القصير في الحكومة بقصة مثيرة أو بمسرحية جيدة، لكان أولئك الذين نصحوني بعدم قبول العمل «الإداري» هم أول المشيدين بها وبي وبحذقي في اختيار التجربة التي دفعتني لكتابتها.
باختصار شديد، كتابا وقراء ناصحين ومنتصحين، أقول لكم رأيي بصراحة: لقد حللت النصائح التي تزجى للآخرين، فوجدت أن 90٪ منها على الأقل تبدأ بحرف النفي هكذا: لا تعمل هذا أو ذاك، حتى أصبح طالب النصيحة يتقي من يحس بغريزته أنه سينصحه بألا يفعل ليسأله النصيحة، كي لا يكون هو المسئول - بينه وبين نفسه - عن نكوصه أو رفضه للعمل.
अज्ञात पृष्ठ