فمن العبث أن نجزم باستحالة حركة من هذه الحركات قياسا على أعمال الجيوش التي جرى بها العرف في غير هذه الأحوال؛ لأن الاستحالة والجواز إنما يحسبان هنا بحساب لا يتكرر كثيرا في جميع الحروب.
ففي غير هذا «الفتح» يجوز مثلا أن يسأل السائل: كيف استطاع عمرو بن العاص أن يترك حصن بابليون ويوغل في الصعيد، ومن ورائه جيش أعداء يقطع عليه الرجعة ويحصره حيث كان؟ ويجوز تبعا لذلك أن نستبعد الحركة كلها ونحسبها من تلفيق المؤرخين.
ولكننا إذا اصطنعنا هذا القياس هنا، وجب أن نستبعد الفتح كله من ألفه إلى يائه؛ لأن أربعة آلاف مقاتل يتفرقون من العريش إلى بابليون لا يفتحون قطرا يسكنه شعب كبير وتحميه دولة كبيرة، فإن لم يتفرقوا وساروا جميعا إلى حصن بابليون، فقطع الرجعة عليهم أيسر الأمور لو سارت الحركات العسكرية على المألوف في سائر الحروب، وما أعجب حصر الإسكندرية مثلا وهي مفتوحة من البحر إلى القسطنطينية! وما أعجب التقصير في إمدادها خلال الفتح كله، وهو أول ما يخطر على بال!
فالحساب في هذا الفتح غير الحساب في سائر الفتوح.
وأولى أن يقال: إن جند الروم - لا جند العرب - هم الذين كانوا على حذر من الإيغال في جوف البلاد ومن إحداق الأعداء والرعية بهم في مأزق غير متوقع، فالتناقض في هذه الأخبار وما شابهها هو طبيعة الموقف التي لعلها توجب الميل إلى قبولها ولا توجب الشك فيها، وعلينا كما أسلفنا أن نترقبه في كل شيء، وفي كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ العجيب، وقد نستغني عن تعداد شواهده الكثيرة إذا أضفنا إلى ما أسلفنا تناقضا آخر نحتم به هذه الملاحظة التي لا بد منها، وهو التناقض الذي أحاط باسم الوالي الروماني الذي تلقى العرب ثم صالحهم على تسليم البلاد، فمن هو «المقوقس» هذا، وما حقيقة الأمر فيه؟ أهو روماني أو مصري؟ وهل هو من رجال الحرب أو من رجال الدين؟ وهل كان محبوبا في شعبه أو كان مبغضا إليه؟
قيلت جميع هذه الأقوال فيما كتبه العرب والرومان، ولكنه في أرجح الأقوال - كما سيأتي تفصيله - رجل من غير الروم ومن غير المصريين الأصلاء الأقدمين، تولى من قبل هرقل سلطانا دينيا مقرونا بسلطان الدنيا، ومضى في سياسته على سنة النهازين للفرص من خدام الدول المتداعية، فأغلظ للشعب الضعيف مرضاة للسادة الأقوياء، ثم بدا له أن سادته الأقوياء ذاهبون، فأحب أن يستقل بكرسيه، وأن يأوي إلى جناح الفاتحين لعلهم يشكرون له صنيعه، ويحمونه من أعدائه في مصر والقسطنطينية.
ذلك هو أقل الغرائب في وصف هذا الرجل الغريب، ولكنه على ذلك ليس بالوصف القاطع الوثيق، وأوثق ما يقال عنه: إنه رجل كان يرهن مصيره بمصير البلد الذي أقام فيه. •••
تقدم عمرو من طريق الساحل إلى العريش، فلم يجد بها أحدا يصده من قبل الروم، ثم تقدم إلى «الفرما» فحاصر حاميتها واستولى عليها في أقل من شهرين، ثم مضى في طريقه حتى نزل بلبيس، فهزم بها جيشا رومانيا يقدره بعض المؤرخين بثلاثة أضعاف الجيش العربي، وانقض من ناحية الصحراء على «أم دنين» فاستولى عليها، وجاوزها إلى حصن «بابليون»، أو قصر الشمع كما سماه العرب، على الضفة الشرقية من النيل ... واختلفوا فيمن كان يقود حاميته، فقال أناس: إنه «جورج» أو الأعيرج كما سماه العرب، وقال أناس: إنه هو «ثيودور» الذي نازل العرب غير مرة، وقال غيرهم: إنه هو «أريطيون» صاحب عمرو القديم.
وصل الجيش العربي إلى جوار «منف» عاصمة الفراعنة، في شتاء 640 للميلاد - 19 للهجرة - وعرض على والي البلد شروطه التي هي شروط المسلمين قبل كل قتال، وهي الإسلام أو الجزية أو السيف، وعمد إلى التأثير الأدبي في إقناع الحامية ومن يلوذ بها من أهل البلاد، كما عمد إلى الخدعة والبسالة، فكان إذا جاءه الرسل من قبل الروم أبقاهم بين جنوده يوما أو يومين ليروا بأعينهم زهد المسلمين في الدنيا واستخفافهم بالموت، وصبرهم على الشدة وإقدامهم على الكريهة في سبيل ما هم مؤمنون به وساعون إليه.
غير أن أدوات الحصار في جيش عمرو لم تكن من القوة بحيث تعينه على اقتحام سريع للحصون التي كانت توصف بالمناعة في تلك الأيام، فطال لبثه أمام حصن بابليون قياسا على حصار الفرما وبلبيس، ولم يشأ أن يقضي الوقت كله في الإقامة على جوانب الحصن حتى تضيق الحامية ذرعا بالحصار فتستسلم إليه، ولم يكن ميسورا له أن ينفذ السرايا إلى مصر السفلى نحو الإسكندرية وما جاورها؛ لأن ابتداء الفيضان في النهر وجداوله الكثيرة حال دون ذلك، فحول سراياه إلى الصعيد وأطراف الفيوم، ويبدو لنا أنه لم يقصد بها الفتح والاستيلاء على المدن في المرحلة الأولى من القتال، وإنما قصد بها أن يشغل جنده مخافة عليهم من فساد الراحة وطول الانتظار، وأن يعرف بالتجربة المحسوسة مدى التعويل على ولاء أهل البلاد، وأن يضطر حاميات الروم القليلة في الصعيد إلى البقاء حيث هي، والعدول عن إمداد الحامية في حصن بابليون ببعض رجالها إذا خطر لها هذا الخاطر؛ لأن تهديد الصعيد من حين إلى حين يوجب عليها أن تحمي مواقعها قبل التفكير في إمداد غيرها، فإنما كانت حركات السرايا في الصعيد مناورات للتعمية والاستطلاع، ولم تكن حملات للفتح «والاحتلال».
अज्ञात पृष्ठ