ولا نعتقد أن الفاروق قد ترك الأمر للقرعة المجهولة، تبرم فيه وتنقض بحسب اتفاقها، ليسلم إليها العنان في هذا العمل العظيم، ولكنه أراد أن يستزيد من المشاورة والتفكير، وأن يشرك معه ذوي الرأي في التبعة التي هو مقدم عليها. فإذا كف عمرا بعد ذلك قبل أن يطرق أرض مصر فلا ضير من كفه، وإذا جاءه الكتاب وهو في أرضها فقد امتنع الرجوع ووجب المسير؛ لأن الرجوع عن أرض بعد دخولها يكشف للروم ضعفا من العرب ورهبة من العدو، ويغريهم بالكرة على الشام، ويعينهم على جمع الجموع لاستئناف القتال ولو لم يفكروا فيه قبل ذلك، ويخيف أهل مصر أن يستسلموا للعرب إذا أقبلوا مرة أخرى؛ لأن العرب أنفسهم يقدمون على بلدهم بين الشك واليقين.
قيل: إن كتاب الفاروق أدرك عمرا في رفح، فأغضى عن الرسول حتى بلغ إلى مكان من مصر غير مختلف فيه، فقرأ الكتاب وقال لجنده: لم يلحقني كتاب أمير المؤمنين حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه، وكذلك التقى التدبير والمصادفة مرة أخرى في الصفحة الأولى من هذا التاريخ الكبير.
الفصل الرابع
فتح مصر
كان الصدام بين العرب والدولة الرومانية قضاء موعودا منذ اللحظة التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية وكتب لها البقاء؛ لأن الإسلام رسالة تتجه إلى أسماع الناس وقلوبهم؛ ولأن الدولة الرومانية سلطان قائم يحول بين رسالته وبين الأسماع والقلوب.
فلا مناص من التقائهما يوما من الأيام، على سلام أو على خصام.
وهما إذا التقيا على خصام أو على سلام دخل الإسلام مصر مدافعا أو غير مدافع.
ويفتح الإسلام مصر على كلتا الحالتين فتح رضوان أو فتح تسليم ... وإنما هو كتاب مؤجل إلى أوانه المقدور. •••
لمح النبي - عليه السلام - هذا المصير بلحظ الغيب قبل أن يحين أجله المقدور ببضع عشرة سنة.
وكتب إلى المقوقس - عظيم القبط - يدعوه إلى الدين الجديد دعوة أهل الكتاب: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط:
अज्ञात पृष्ठ