هو إذا لم ينزل حيث نزل ليقيم ويستقر. وإنما ألم بمكان من الصحراء ليستريح وليستريح هؤلاء الذين أسروه وعدوا عليه. وهو إذا لم يبلغ مأمنه، ولم ينته إلى غايته بعد. ولكن ما ذلك المأمن؟ وما هذه الغاية؟ وماذا يريد به هؤلاء القوم؟ وإلى أين يحملونه؟ ولماذا يهينونه؟ لقد رآهم يتحدثون باللفظ واللحظ فلم يفهم عنهم، وهو الآن يسمعهم يتناجون في أصوات ترتفع وتنخفض وتتشكل أشكالا مختلفة بين ذلك، فلا يفهم عنهم شيئا. وهو يسأل نفسه: كيف انتهى إليهم وكيف انتهوا إليه؟ فلا يجد لهذا السؤال جوابا. وإنما يذكر تلك الساعة الأليمة التي رأى نفسه فيها قائما في الصحراء ولا يستطيع أن يتقدم ولا أن يتأخر، وقد اكتنفته ظلمة الليل القاتمة، وغمره لغط تلك الأصوات المنكرة التي لا تبين. ثم لا يذكر بعد ذلك كيف انتهى إليهم وكيف انتهوا إليه. ماذا كان ذلك الصوت الغليظ الخشن الذي عجب منه وهزئ به، وأغراه بالتحول عن العراق إلى الحجاز، وبالرغبة عن «نسطور» إلى الصبي العربي اليتيم؟ أكان صوتا قد صدر عن ناصح له، رفيق به عاطف عليه، أم كان صوتا صدر عن ساخر منه، عابث به مضمر له الكيد والغرور؟ ثم يذكر الفتى حديث رفيقه «بحيرى»، وما زعم له من حاجته إلى التجارب والخطوب، ليرتد عقله عن الكبرياء إلى التواضع، وعن الغرور إلى الاعتدال. وترتسم على ثغره ابتسامة حزينة أليمة حقا. لقد كانت أبواب السماء مفتحة حين تحدث إليه رفيقه عن التجارب والخطوب. فما أسرع ما سلطت عليه التجارب وأغريت به الخطوب! لقد كانت هذه التجارب والخطوب مسايرة له ولرفيقه في الصحراء، تريد أن تدنو منهما فلا تستطيع؛ لأن مكان هذا الراهب الكريم كان يمنعها من الدنو. فما هي إلا أن تحتال حتى تستدرج هذا الفتى وتبعده عن رفيقه الذي وقاه الله شر التجارب والخطوب. فما يكاد يبعد عنه حتى تنساب إليه من كل سبيل. لقد خلص لها وفرغت له فلتذقه مرارتها خالصة، ولتصب عليه آلامها ممضة لاذعة، ولترد عقله إلى التواضع، ولتباعد بينه وبين الكبرياء والغرور.
ثم يخيل إلى الفتى كأن عقله قد وقف عن التفكير، وكأن قلبه قد عجز عن الشعور حينا، وكأنه في شيء يشبه النوم وليس بالنوم، وكأنه يسمع ذلك الصوت الغليظ الخشن وهو يبعث في الفضاء قهقهة عالية ملؤها السخرية والاستهزاء؛ فيعود الفتى إلى شعوره الأليم، وتفكيره العقيم، وإذا هو يسأل نفسه مرة أخرى عن هذا الصوت: ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وترتسم على ثغره ابتسامة أخرى فيها سخرية مرة، واستهزاء حزين. فهو يسأل نفسه: ألا يمكن أن يكون هذا الصوت الذي أغراه بالعودة وورطه في هذه الكريهة، صوت إله من هؤلاء الآلهة القدماء الذين كان يعبدهم ويقبل عليهم في المدينة مع صاحبيه، ثم لم يلبث أن شك فيهم، وتنكر لهم وأعرض عنهم واستجاب لصديقه الشيخ، وجعل يبحث عن إله جديد دون أن يبلغه أو يهتدي إليه، فأضاع نفسه بين قديم كان يعرفه، وجديد لا يألفه! لقد أعرض عن عبادة «دينوزوس» وأصحابه منذ عهد بعيد. ألا يمكن أن يكون «دينوزوس» قد أرسل إليه بعض أتباعه ليسخر منه ويعبث به، ويرده آخر الأمر إلى دينه القديم؟
ولكن الابتسامة الحزينة الساخرة التي كانت ترتسم على ثغر الفتى تتسع شيئا فشيئا! وإذا شفتاه تنفرجان عن ضحك عال وقهقهة تملأ الفضاء. ولو أتيح له أن يرى لرأي هؤلاء النفر من حوله وقد ارتسم عليها شيء من العجب لهذا الأسير الغريب الذي تختلف على وجهه الابتسامات وتنفرج شفتاه عن الضحك المرتفع البعيد.
ولكن الفتى مشغول عما حوله وعمن حوله، ساخر من كل شيء ومن كل إنسان، وساخر من نفسه قبل كل شيء وقبل كل إنسان، وساخر بنوع خاص من هذا الخاطر السخيف الذي عرض له، ومن هؤلاء الآلهة القدماء الذين أخذ يفكر فيهم والذين لم يخلص لهم الدين في يوم من الأيام؛ ولن يخلص لهم الدين في يوم من الأيام؛ لأنهم لم يستطيعوا قط أن يبلغوا عقله أو قلبه.
هو ساخر من كل هذا، وهو ممعن في لون آخر من ألوان التفكير يملأ نفسه حزنا إلى حزن، ويفعم قلبه ألما إلى ألم، ويضيف في نفسه ذلة إلى ذلة وانكسارا إلى انكسار. لقد ضاق بقيصر وبغي قيصر، حين كان آمنا في المدينة، وادعا بين صديقيه، مستمتعا بالثروة الواسعة والجاه العريض، مهيأ لأن يضيف إليهما بسطة الملك وضخامة السلطان. لقد أنف من قيصر وبغي قيصر، وكره أن يدخل قيصر بينه وبين ضميره، وأزمع الهجرة عن أرض قيصر، تلك التي يستذل فيها الناس وتحمل فيها الرعية على ما لا تحب، إلى أرض أخرى يصبح فيها ملكا لنفسه، لا يتحكم فيه أحد ولا يبغى عليه سلطان. لقد هاجر من أرض الذلة والهوان إلى أرض العزة والكرامة. لقد أصبح ملكا لنفسه، ولكنه ملك لا يستطيع أن يفتح عينيه، ولا أن يحرك يديه، ولا أن ينهض على قدميه. ملك عان ذليل موثق، قد شد إلى مطية تسرع به إلى حيث لا يريد بل إلى حيث لا يعلم، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل هو عاجز كل العجز عن أن يفهم من هؤلاء القوم الذين يطوفون به ويسعون من حوله، إلى أين يذهبون به وماذا يهيئون له؟
ليسخط الآن على ظلم قيصر وبغيه، وليحمل الآن عاقبة تفكيره في الهجرة وامتناعه عن سلطان قومه وقوانين وطنه، فقد بلغ من ذلك ما كان يريد وأكثر مما كان يريد. ثم تعود إلى الفتى خواطره التي كانت تملأ رأسه آنفا، فيذكر حديث رفيقه الراهب عن التجارب والخطوب، وأثرها في رد العقل إلى التواضع والاعتدال، وصرفه عن الكبرياء والغرور. ما أصدق هذا الحديث وأدناه إلى الحق! إن الفتى لمستسلم للقضاء، مذعن للقدر، قد وطن نفسه على الصبر، وأخذها باحتمال المكروه. وهل يستطيع أن يطمع في غير الصبر، أو أن يفكر في النبو عن الضيم والامتناع على المكروه! كلا! إنما هو أسير عان لا يملك من أمر نفسه شيئا. وآية ذلك أن المطية تسعى به مسرعة رفيقة إلى حيث لا يعلم ولا يريد، وأنه قد أخذ يحس الظمأ ويجد ألمه محروقا لاذعا، وهو لا يستطيع أن يشفي هذا الظمأ؛ لأنه لا يستطيع أن يفهم هؤلاء النفر من حوله حاجته إلى الشراب. يتكلم فلا يفهمون عنه، ويريد أن يشير بيده فلا يستطيع، ويود لو يشير بلحظه فلا يستطيع؛ فقد حيل بين عينيه وبين الضوء. هو يعلم أنه لا يملك إلا الصبر والإذعان، ولكنه مع ذلك يعالج نفسه على أن يكون صبورا مذعنا، حتى لو أتيحت له الحرية وخلي بينه وبين أن يريد وأن ينفذ ما يريد.
وهو يتصور أن هؤلاء النفر الذين ظلموه وبغوا عليه قد ثابوا إلى العدل فردوا إليه حريته، وحطوا عنه الأغلال، وفكوا عنه القيود، وخلوا بينه وبين الأرض الواسعة والفضاء العريض. ثم يعاهد نفسه لئن فعلوا ذلك ليقيمن بينهم أسيرا قانعا بالإسار، ذليلا راضيا بالذل، عبدا مخلصا في خدمة مواليه؛ لأن حديث التجارب والخطوب قد وقر في نفسه واستقر في أعماق ضميره، ولأنه قد ضاق بطغيان عقله وكبريائه، وبما كلفه الطغيان والكبرياء من بطر وأشر ومن جهد وعناء.
وكذلك أنفق «كلكراتيس» ثلاثة أيام ذليل الجسم أسيره، عزيز النفس طليقها. ينزل به سادته حيث يريدون النزول، فيحطون عنه الغل، ويردون إليه الضوء، ويقدمون إليه ما يقيم أوده من الطعام والشراب، ثم يرحلون به متى أرادوا وقد ردوه إلى سواد الظلمة وثقل الأغلال.
وهو عن ذلك راض، وله مذعن، وإليه مطمئن، لا يفكر حتى في أن يسأل نفسه ماذا يراد به؟ وإلى أين يقصد به؟ وما عسى أن ينفعه هذا السؤال! وما عسى أن يجدي عليه التفكير فيه! إنما هي محنة لا بد من أن يحتملها أراد ذلك أو لم يرده، وخطب لا بد أن يصبر عليه رضي عن ذلك أو كرهه. فالخير في أن يستقبل المحنة باسما لها، وأن يحتمل الخطب راضيا به؛ فذلك أكرم له من جهة، وأهون عليه من جهة أخرى، وأدنى إلى ما أمره به رفيقه من ملابسة التجارب والخطوب، وإلى ما أوصت به فلسفة القدماء من أن يريد المرء ما هو كائن إذا عجز عن تحقيق ما يريد.
فلما كان اليوم الرابع نزل القوم وأنزلوه، وحطموا عنه أغلاله، وردوا إلى عينيه ضوء النهار، وأطعموه وسقوه. وانتظر أن تمضي ساعة وبعض ساعة، وأن يعود به القوم إلى الغل والظلمة والرحيل. ولكنهم لم يفعلوا، وإنما تركوه حر اليدين والعينين، وأطلقوا رجليه من القيد شيئا، خلوا بينه وبين بعض الحركة البطيئة الثقيلة، في حدود هذه الخيمة الخشنة التي ضربت عليه! وجعل أفراد من رجال ونساء يقبلون عليه فينظرون إليه! فمنهم من يعجب به، ومنهم من يعجب له، ومنهم من يضحك منه، ومنهم من يظهر له الرثاء! وكلهم يقبل فينظر ثم ينصرف. ويقبل المساء فيقدم إلى الفتى طعامه الجافي وشرابه الغليظ، ثم يخلي بينه وبين النوم. ويقبل الصباح بعد ليل طويل لم يذق فيه النوم إلا غرارا، لا لأنه ضيق بحاله، كاره لمكانه، بل لأنه لا يقضي العجب من هذه الخطوب التي اختلفت عليه من سمع الصوت الغريب الذي تغنته تلك الفتاة الجميلة في قصر حاكم المدينة.
अज्ञात पृष्ठ