12
ثم ينبلج الصبح عنه، فإذا هو كامل القوة، موفور النشاط، باسم الثغر، مبسوط الأسارير، لا يظهر عليه الإعياء، وإن كان قد تكلف مشقة سفر متصل لم يسترح من جهده إلا هذه الساعات القليلة التي كانت إلى التعب أقرب منها إلى الراحة، وإلى الخوف المضني أدنى منها إلى الأمن والهدوء. وإنما يظهر على وجهه شيء آخر يصور نفسا راضية، وقلبا مطمئنا، وينم بأن الفتى قد برئ من هذا القلق الذي كان يساوره ويفسد عليه أمره. ولا غرابة في ذلك! فقد كان يريد أن يرى وأن يشهد. أوليس قد رأى وشهد! إنه لم ير شخصا ماثلا يصدر إليه هذا الصوت الذي رده عن العراق وحوله إلى الدير، ولكنه قد سمع هذا الصوت سمعه غير مرة، وسمعه يأتيه من خارج نفسه، لا من دخيلتها ولا من أعماقها، فما ينبغي لعقله أن يشك، وما ينبغي لبصيرته أن ترتاب، وما ينبغي لعزمه أن ينثني عما صمم عليه. إنه مأمور بالقصد إلى الحجاز؛ فليقصدن إلى الحجاز بعد أن يستقر حينا في الدير، ويتزود من صديقه الشيخ ببعض اليقين.
وهو يمضي أمامه يغمره ضوء الصبح المشرق، وينعشه نسيمه البارد؛ ويشيع النشاط في جسمه ونفسه لذة غريبة يذوقها ولكنه لا يستطيع تصويرها ولا يحسن وصفها إن حاول هذا الوصف. والغريب من أمره أنه كان يمضي أمامه دون أن يسأل نفسه: أماض هو في طريقه إلى الدير أم هائم هو في غير طريق؟
وما شكه في استقامة الطريق له واعتدالها أمامه، وهو قد سلكها أمس، وهو لا يسلكها اليوم إلا مأمورا، فإن الذي أمره أن يعود أدراجه يهديه سبيله إلى العودة، ما يتطرق إليه في ذلك شك ولا ريب. فليمض أمامه، وليمض لا ملويا على شيء ولا حافلا بشيء، وليبعد الخطى فإن الأمد بعيد! وما ينبغي أن يدركه الليل مرة أخرى قبل أن يبلغ مأمنه وينتهي إلى غايته.
ومن الحق أنه لم يسلك هذه الطريق أمس راجلا، وإنما كانت تخب به الركاب. ومن الحق أيضا أنه لم يكن دليل نفسه أمس، وأنه لم يعرف معالم الطريق ولم يثبتها! فهو خليق أن يخطئ القصد، وأن يجور عن السبيل. ولكن هذه الخواطر لا تلم به ولا تعرض له، فهو مشغول بما يملأ قلبه من أمن، وما يغمر نفسه من اطمئنان. وهو مشغول بهذه الثقة التي أراحت عقله، واضطرته إلى الدعة والهدوء، وجردته من ذلك السلاح الخطر الذي كان يناضل به في ذلك الصراع الأليم.
لقد كان يريد أن يرى، فقد رأى. ولقد كان يريد أن يشهد، فقد شهد. وما من شك في أن الأيام ستتكشف له عن معجزات أخرى أعظم خطرا، وأعمق أثرا، وأنبه شأنا من هذه المعجزة التي أسرها الليل إليه، ومن تلك المعجزات التي قصها الرهبان عليه. فليمض أمامه واثقا! فقد انجلت عنه الغمرة، وآذنت محنته بالزوال.
ومن الحق أنه لم يمض في الصحراء أمس وحيدا ولا صفر اليد، وإنما كان له رفيق يأنس به ويستريح إليه، وأتباع يعينونه على بعض الأمر ويصلحون له من الشئون ما لم يتعود أن يصلح لنفسه، ويحملون له من الزاد والمئونة ما يقيم أوده، ويعصمه من الظمأ والجوع. وهو الآن يمضي في الصحراء وحيدا لا رفيق له ولا تبع، ولا مئونة معه ولا زاد. ولكن هذا الخاطر لم يلم به ولم يعرض له؛ لأن قلبه مشغول عن هذه الصغائر بما يملؤه من عظائم الأمور. وآية ذلك أن الضحى قد ارتفع، وأن الشمس قد أوشكت أن تزول، وأنه على ذلك يمضي في طريقه آمنا هادئا، لا يحس ألما ولا تعبا، ولا يدعوه جسمه إلى طعام أو شراب، ولا يجد حاجة إلى شيء إلا إلى أن تبعد خطاه، وأن يدفعه نشاطه حتى يبلغ مأمنه، وينتهي إلى غايته، ويلقى صديقه الشيخ، قبل أن تجنه ظلمة الليل.
وما من شك في أنه سيبلغ من ذلك ما يريد. وما من شك في أن هذا الصوت الذي أزعجه من مضجعه لم يرد به إلا خيرا، وهو خليق أن يبلغه مأمنه قبل أن يدركه الجهد أو يمسه الضر.
وكذلك مضى الفتى أمامه واثقا لا يعرف القلق ولا الشك إلى نفسه سبيلا، سعيدا بهذا الأمن الذي فارقه منذ عهد بعيد، والذي عاد إليه الآن يؤنسه في وحدته، ويذود عنه وحشة الصحراء.
لن يسمع إذا جنه الليل ذلك الصوت الغليظ الخشن يردد في هدوئه الساخر تلك الجملة اللاذعة. لقد أراد ففعل. ولقد عزم فتمم. وأي دليل على ذلك أصرح وأوضح من هذه الخطى البعيدة التي تقطع الصحراء دون أن يجد لها كلالا أو يدركه منها سأم! كلا! لئن سمع صوتا في هذه الليلة المقبلة ليسمعن صوتا حلوا عذبا مشجعا، يملؤه ثقة ويدفعه إلى المضي والإقدام. وقد أخذت حرارة الشمس تخف بعد شدتها، وأخذ وجه النهار يدركه الشحوب، وأخذت الظلمة بعد حين تنتشر على الصحراء كأنها السيل المندفع لا يذر شيئا أتى عليه إلا غمره واكتسحه اكتساحا، ولم يبلغ الفتى مأمنه، ولم ينته إلى غايته، ولم يعرف شيئا من هذه المعالم التي تقوم غير بعيد من الدير.
अज्ञात पृष्ठ