تأليف
طه حسين
مقدمة
هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتها مسرعا، ثم لم أر بنشرها بأسا. ولعلي رأيت في نشرها شيئا من الخير؛ فهي ترد على الناس أطرافا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم.
إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهين الذي لا يكلف مشقة ولا عناء!
ذلك إلى أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتا مستقرا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا في نصوصه يقرءونها ويعيدون قراءتها، ويستظهرونها ويمعنون في استظهارها. إنما الأدب الخصب حقا، هو الذي يلذك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة؛ وينطقك كما أنطق القدماء، ولا يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك، أو يصور قلبك في صورته؛ وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم في شكل جديد يلائم حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم.
هذا هو الأدب الحي. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب الذي ينتهي أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت في آداب القدماء والمحدثين لرأيت منها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال، وإنما هي آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها؛ لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تقرأ فتحدث اللذة وتثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر؛ بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها قد ألهمت وما زالت تلهم الكتاب والشعراء، وتوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة «هوميروس». وما زال القصاص وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله «إيسكولوس» منذ خمسة وعشرين قرنا. ولم تكن قصص «إيسكولوس» وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبا من الإلياذة؛ بل هي قد ألهمت من الكتاب والشعراء قديما وحديثا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم وإلى الغد.
وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوام قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم؛ فوضع لها هذا العنوان «أنفيتريون رقم 38». كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأوربيين المحدثين يتأثرون ويذهبون مذهبه أو غير مذهبه، في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التي كتبت فيه شعرا ونثرا إلى هذا العدد الضخم.
ولم يحجم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سبقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصا عليه ورغبة فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني «بلوت» والشاعر الفرنسي «موليير». ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعا سبق إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة، فصور قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة 1929 فكان فوزها عظيما، وإعجاب النظارة والقراء بها لا حد له.
अज्ञात पृष्ठ