قال الفتى، وقد أخذ منه الشغف والكلف والشوق مأخذا عظيما كاد يخرجه عن صوابه: وترانا نبلغ هذا الوقت الذي ينضج فيه العقل لفهم هذه الآية الكبرى وحمل هذه الأمانة العظمى؟
قال الشيخ: فقد نضج العقل يا بني، وإنه ليدعو هذه الآية بكل ما فيه من قوة، وإنه ليتجه إلى السماء اتجاه المتلهف المشوق، يستنزل منها هذه الآية. ولو استطاع لطار إلى السماء، ولكنه قد فقد جناحيه منذ أهبط إلى هذه الأرض، كما يقول أصحاب أفلاطون؛ فهو مضطر إلى أن ينتظر رسالة الله، وإلى أن يصبر حتى يأتيه اليقين.
قال الفتى: وكيف عرفت نضج العقل وقربه من هذا الوقت الذي يخرج فيه من الظلمة إلى النور، ومن القلق إلى الاطمئنان؟
قال الشيخ: لقد حدثتك ببعض ما رأيت في رحلتي تلك إلى بلاد العرب. وما أرى إلا أن حديثي ذاك قد أدخل على نفسك بعض القلق الذي أنت فيه، كما أدخلت رحلتي على نفسي هذا القلق الذي انتهى بي إلى هذا الدير.
فانظر يا بني، كما أنظر، إلى الناس من حولك! ألست ترى يأسا من كل شيء، وضيقا بكل شيء، وانتظارا لشيء لا يعرفون ما هو، وطموحا إلى مثل أعلى يلمحونه ولا يستطيعون تصويره ولا تصوره؟ ثم انظر إليهم وفكر في أمرهم، أرأيتهم قد اضطربوا وساءت أحوالهم وفسدت الصلات بينهم كما تراهم الآن؟! إن هذا لشيء يراد يا بني، وما كان الله ليدفع الناس إلى هذا اليأس المهلك إلا وهو يقدر لهم رحمة تخرجهم منه، ويهيئ لهم نورا يمحو عنهم ظلمته القاتمة.
أقم يا بني معي؛ فإني لا اقيم في هذا الدير عبثا، وإني لم أختره دون غيره من الأديار التي تنبث غير بعيد من مدينتا إلا ولي في اختياره أرب.
قال الفتى: وما ذاك؟
قال الشيخ: هو هذا النبأ الذي أنتظره، وما أشك في أنه سيبلغني أو في أن بشائره ستبلغني عما قليل. أقم يا بني! لقد رأيت بشائر هذا النبأ يتبع بعضها بعضا في تلك البلاد التي أقمت فيها أعواما. وما أشك في أن هذه البشائر ستتجاوز هذا الوجه من أقطار الأرض وستبلغنا. ولو استطعت أن أقيم في البلاد التي ظهرت فيها تلك الآيات لما زلت عنها، ولكنها ليس لي بوطن! فأنا أقيم منها غير بعيد، وأنتظر أنباءها من يوم إلى يوم. ولقد حدثت بأحاديثها إلى رهبان هذا الدير، فاضطربوا لها كما تضطرب لها أنت الآن، وكما اضطربت لها أنا من قبل. ومنهم شاب آرامي من أهل الجزيرة استخفته هذه الأحاديث؛ فلم يملك نفسه ولم يستطع أن ينتظر كما ننتظر في هذا الدير المطمئن، ولكنه ارتحل عنا، وأمعن في الصحراء إلى أقرب موضع ممكن من هذه البلاد! واتخذ لنفسه هناك صومعة يقيم فيها، قريبا من الجادة حيث تمر القوافل التي تحمل إلينا تجارة تلك الأرض، يريد أن يسبقنا إلى العلم بهذا النبأ العظيم. وقد عودنا إذا مرت عليه القوافل فسألها واستقصى أخبارها، أن يزورنا فيحدثنا بما سمع وبما نقلت إليه القوافل. وإنه ليحدثنا بالأعاجيب يا بني، وإن موعد زيارته قد أظلنا! فهذا أوان مرور القوافل في تجارتها إلى أرض الشام. وما أراك ستطيل المقام هنا قبل أن ترى «بحيرى» مقبلا علينا بأخبارها ينثرها بيننا فرحا، مرحا، مبتهجا، كأنه الفتى الكريم، يجد اللذة كلها في أن يهب للناس ما جمع من ماله.
أقم يا بني! لقد كان عقلك ينكر المعجزات، ويزعم أنه لن يؤمن حتى يرى. فسيرى عقلك يا بني. سيعيش في عصر المعجزات. وسيكون حظك خيرا من حظي ومن حظ أمثالي الذين تقدمت بهم السن. سنرى نحن البشائر وقد لا ندرك جلية الأمر. أما أنت فسترى البشائر كما نراها، وقد تبلغ من صريح الأمر ما لا نبلغ، وتنال من الفوز ما لم يقدر لنا أن ننال.
قال ذلك وانهلت من عينيه عبرات غزار احتبس لها صوته في صدره. فنهض الفتى إليه وقبله وفداه، وما زال به حتى عاد إلى ما كان عليه من الهدوء والوقار. فقال في صوت مطمئن: انتظر يا بني! فليأتينك النبأ غدا أو بعد غد. وإذا بلغت ما لم نبلغ وانتهيت إلى ما لم ننته نحن إليه، فاذكرنا من حين إلى حين، وقل لنفسك إنا كنا نتحرق شوقا إلى بعض ما تجد من راحة أو نعيم.
अज्ञात पृष्ठ