وما أدري يا بني لم تؤمن بسلطان الغرائز على جسمك، ولا تؤمن بسلطانها على نفسك؟ بل ما أدري لم تؤمن بأن للغرائز على نفسك سلطانا في بعض الأمر، وتجحد أن يكون لها سلطان في بعضه الآخر؟
قال «كلكراتيس»: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم.
قال الراهب الشيخ: فقد فهمت عني كل ما قلته منذ التقينا، أفتراك قد نال منك الجهد وأدركك التعب؟
قال «كلكراتيس»: كلا! ما رأيتني قط كما أراني الآن نشيطا إلى الحديث راغبا فيه، مستزيدا منه، مشغوفا به. ولكن أوضح مقالتك فإن فيها بعض الغموض.
قال الراهب: فإن جسمك يا بني يألم إذا مسه الجوع أو الظمأ دون أن يكون لعقلك في ذلك تأثير قليل أو كثير، وإن جسمك يا بني يبرأ من الألم حين ترد عنه الجوع بالطعام، وحين ترد عنه الظمأ بالشراب. ولو أوتيت عقل الناس جميعا لما استطعت أن ترد عن جسمك ألم الجوع والظمأ حين يحتاج إلى الطعام والشراب، ولما استطعت أن ترد على جسمك ألم الجوع والظمأ حين يدركه الشبع والري. فإني أرى يا بني أن لنفسك غرائزها كما أن لجسمك غرائزه، وأن غرائز النفس كغرائز الجسم لا تصدر عن العقل ولا تنشأ عنه، وإنما تصدر عن الطبع وتنشأ عن المزاج، وحاجة النفس يا بني إلى الإيمان كحاجة الجسم إلى الطعام والشراب، تألم إن فقدت الإيمان، وتستريح إن ظفرت به، ليس للعقل في ذلك أثر. فكن أعقل الناس، وكن أحزمهم وأصرمهم وأمضاهم عزما، فلن يغير ذلك من نفسك شيئا إن كانت طبيعتها طبيعة النفس الإنسانية التي فطرت كما فطرت نفوس الناس على الإيمان.
قال «كلكراتيس»: فإني لا أنكر من ذلك شيئا، وما أنكر حاجة نفسي إلى أن تؤمن، وعجزها عن حياة الكفر والجحود، وإنما أحاورك في موضوع هذا الإيمان، وفي السبيل التي تؤدي إليه.
قال الراهب الشيخ: فإني يا بني أرى أن في العقل تمردا وغرورا. قد خضعت له طائفة من الأشياء، وذلت له بعض صور الطبيعة، فظن أن كل شيء يجب أن يخضع له، وأن كل صورة من صور الطبيعة يجب أن تذعن لسلطانه. والحوادث مع ذلك تثبت له من يوم إلى يوم، بل من لحظة إلى لحظة، أنه لم يعلم من الأمر إلا أقله، ولم يستذل من صور الطبيعة إلا أيسرها وأهونها شأنا. وإن غرور العقل يا بني قد زين له أن يجعل للطبيعة قوانين، ويفرض عليها قيودا وأغلالا، وألا يؤمن بها ولا يرضى عنها إلا أن خضعت لقوانينه، ورسفت في قيوده وأغلاله. ولكن قوانينه لم تحط بكل شيء، ولكن قيوده وأغلاله لم تبلغ كل شيء. وما زالت الطبيعة حرة طلقة، وما زالت أكبر من العقل وأوسع من سلطانه وأبعد من مرماه. وما زالت أحداث تحدث لا يستطيع العقل إنكارها، ولا يستطيع تفسيرها، ولا يستطيع إخضاعها لقوانينه ولا لقيوده وأغلاله.
هي متمردة على العقل لأنها أقوى منه. وهو متمرد عليها لأن الغرور قد أفسد عليه أمره، وأنساه أنه حديث السن، قليل الحول والطول، وأن الطبيعة أقدم منه عهدا، وأبعد منه مدى. ما أجدر العقل يا بني أن يصلح نفسه، وأن يصلح ما حوله، لو أنه عرف قدر نفسه، فلم يخرج عن طوره ولم يسرف في التمرد والغرور.
إنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يحيا الميت بعد أن مات وشبع موتا: ومع ذلك فقد نهض الميت من قبره، وقد قرأت عليك ذلك في الإنجيل، وما أنكرت منه شيئا! لأن الناس جميعا قد عرفوه واطمأنوا إليه. وإنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يبرأ الأكمه والأبرص؛ لأن قائلا يقول له ابرأ! ومع ذلك فقد برئ الأكمه والأبرص حين أمر أن يبرأ، وقد قرأت عليك ذلك في الإنجيل فلم تنكره؛ لأن الناس جميعا قد عرفوه. وإنك يا بني لا تستطيع أن تفسر بعقلك كيف يمشي الرجل على الماء، ولا كيف تشبع الجماعة الضخمة مما يقوم بأود الرجل الفذ! ومع ذلك فقد كان هذا كله، قرأته عليك في الإنجيل فلم تنكر منه شيئا! لأن الناس جميعا قد عرفوه. فكن في إحدى هاتين المنزلتين، ولا تتذبذب بينهما: فإما أن تعرف ما عرف الناس، وإذا فلتؤمن بما آمن به الناس! وإما أن تنكر ما عرف الناس، وإذا فما أدري لم تطمئن إلى آلهتك القدماء، وإن أمرهم لأدنى إلى المحال وأشد إغراقا في السخف، وأبعد مما يستطيع عقلك أن يسيغ!
قال «كلكراتيس»: فإني أستطيع أن أنكر ما عرف الناس إلا أن يعرفه عقلي. وإني لا أرى على نفسي بأسا من أن أنكر الآلهة القدماء كما أنكر الإله الجديد الذي يحدثني عنه الإنجيل ما دام عقلي لا يستطيع أن يسيغ من أمره ولا من أمرهم شيئا.
अज्ञात पृष्ठ