وصدقني أني لا أكره أن تمسني هذه الرحمة التي مستك، بل لا أتمنى إلا أن تمسني فتهديني إلى مثل ما اهتديت إليه، أو إلى غير ما اهتديت إليه، ولكنها تخرجني على كل حال من هذه الحياة التي أخذت أمقتها أشد المقت، وأضيق بها أعظم الضيق.
قال «أندروكليس»: ولكني لا أمقت هذه الحياة ولا أضيق بها، ولا أريد أن تمسني هذه الرحمة، ولا أبتغي إلا أن أترك وما أنا فيه من خفض العيش ولينه، وأنا زعيم بإرضاء قيصر وبإرضاء المسيح أيضا.
قال الراهب: أما إرضاء قيصر فيسير، والناس جميعا أو أكثرهم يبلغون من رضا قيصر ما يريدون، وإنما هي الطاعة والإذعان، والاختلاف إلى الكنائس، وشهود الصلوات، وإظهار التكريم للقسيسين والرهبان. وأما إرضاء المسيح فشيء آخر بعيد كل البعد عن أن يكون من اليسر والسهولة بحيث تظن.
قال «أندروكليس»: فحسبي أن أرضي قيصر! لأني أعرفه وأومن به، وأرجو نعمته وأخشى نقمته. فأما المسيح فما أرى أن له علي حقا قبل أن يظهر نفسه لي ويمسني بهذه الرحمة التي مسك بها. وأنا أرجو ألا يفعل؛ فإنه إن فعل كلفني مثل ما كلفك من اطراح الحياة ولذاتها، وما يملؤها من هذا النعيم ذي الألوان المختلفة الذي لم أقض منه حاجتي، وما أحسب أني سأقضيها في يوم من الأيام.
قال الراهب ملتفتا إلى الحاكم: وأنت ماذا تقول؟
قال الحاكم مبتسما مستخذيا: يشق علي أني لا أستطيع أن أقول إلا ما قاله «أندروكليس».
قال الراهب: فإني لا أملك لكما من الله شيئا، وما أنا من الذين يحبون الحوار في الدين، وما هيأت نفسي لذلك وما مرنتها عليه، وما أقدر لكما إلا على الصلاة والدعاء. فأما أنت يا «كلكراتيس»، فإني أرى، من اضطراب نفسك وثورة ضميرك وترددك بين ما ترى وما لا ترى، أن لك شأنا.
قال «أندروكليس» ملتفتا إلى الراهب ضاحكا له : أتعلم أي صورة يثيرها موقفك هنا الآن في نفسي؟
قال الراهب: نعم! تتحدث إليك نفسك بأني ذئب قد وقع في القطيع، فهو يتخير بين شائه الشاة التي تلائمه ويسهل عليه اختطافها، وتخيل إليك نفسك أن «كلكراتيس» هو هذه الشاة، وأني سأحاول انتزاعه من أهله وصديقه ووطنه. ثم تتحدث إليك نفسك هازئة بي وساخرة مني بأن «كلكراتيس» بعيد كل البعد على أن يكون شاة، وبأني سأرتد عنه خاسئا حسيرا. ولكن نفسك تكذبك يا بني، فما أنتم بالقطيع، وما أنا بالذئب، وإنكم لألسن مني، وإنكم لأقدر مني على الحوار والانتصار على الخصم. وما أنا بطامع في «كلكراتيس»، وما هو في حاجة إلى أن يقاومني ويدفعني عن نفسه، وقد أنبأني آنفا بأن رحمة الله لم تمسسه بعد، وأنه لا يكره أن تمسه، بل لا يتمنى إلا أن تمسه، وأنا أعلم أن رحمة الله قريب من الذين يطمعون فيها ويطمحون إليها. فلست أرجو أن يرحل معي «كلكراتيس»، ولعلي لا أرجو أن يلحق بي إلى الدير. ولكني لست أيأس أن يمسه الله بروح منه، فيخرجه من تردده، وينقذه من اضطرابه الذي يشقيه.
قال «كلكراتيس»: فإني لست مترددا ولا مضطربا، ولكني مطمئن كل الاطمئنان إلى أن هذه الحياة التي يأخذ قيصر بها الناس ويريد أن يأخذنا بها. ويواطئه صديقاي على أن يأخذا بها نفسيهما، شر كلها لا تليق بالرجل الكريم، ولا يستطيع ذو العقل أن يطمئن إليها. فأنا أريد عازما أشد العزم أن أفر بعقلي منها إلى مكان بعيد لا تستطيع أن تبلغه، ولا يستطيع سلطان قيصر أن يصل إليه.
अज्ञात पृष्ठ