قال «كلكراتيس»: فنحن في ذلك منذ عرفنا أنفسنا لا نعصي لقيصر أمرا، ولا نخرج عما رسم لنا من الحدود.
قال الحاكم: بل أنتما تعصيان له بعض الأمر، وتخرجان عن بعض ما رسم لكما من الحد. فأنتما لا تشهدان الصلاة، ولا تختلفان إلى الكنائس، ولا تظهران تعظيم المسيح، ولا تقدمان إلى القسيسين والبطارقة ما يصلح رأيهم فيكما. وقد كنت مثلكما حينا من الدهر، وما أظنني خالفتكما فيما أخالفكما فيه من ذلك إلا لأن المنصب يفرض علي أن أشهد الصلاة وأختلف إلى البيع، وأظهر للدين ورجاله ما أظهر من التعظيم. وقد نفعني ذلك كما تريان ولم يضرني شيئا.
ثم أطرق صامتا فأطال الإطراق، ثم رفع رأسه وقال مبتسما: وأحسبه نفعكما أيضا. فما يمنعكما أن تذهبا مذهبي، وتسيرا سيرتي، وتعلنا لقيصر ما يريد إعلانه، وتضمرا لأنفسكما وآلهتكما ما تحبان! إنكما لا تنكران ذلك من أمري، فما لكما لا تعرفان منه مثل ما أعرف، ولا تأتيان منه مثل ما آتى؟!
قال «أندروكليس»: لأنا لا نريد أن نرقى إلى مثل ما رقيت إليه من منصب، ولا أن نظفر بمثل ما ظفرت به من قوة وسلطان، ولأن ما لنا يغنينا، وجاهك يحمينا، وهذه الحياة ترضينا.
قال حاكم المدينة: فإن عجز جاهي منذ الآن عن حمايتك؟
قال «كلكراتيس»: فإنه النذير بالقطيعة إذا.
قال حاكم المدينة: لا تتعجل القضاء على صديقك، ولا تسرع إلى سوء الظن به! فإني لا أريد قطيعتكما ولا أقدر عليها، وإنما هو خطب ألم، فأنا أستعينكما عليه، وأستشيركما فيه، فأعيناني وأشيرا علي. وإنكما لتعلمان أني ما أملك لكما ولا لنفسي من غضب قيصر شيئا. فلنجمع أمرنا، فإما طاعة لقيصر من ثلاثتنا ووراءها ما وراءها من الحظوة والنعيم، وإما معصية لقيصر من ثلاثتنا ووراءها ما وراءها من البؤس والضر ومن عذاب قد ينتهي إلى الموت.
قال «أندروكليس» ضاحكا وهو ينظر إلى زجاجات وأقداح قد وضعت من القوم غير بعيد: ما أرى إلا أنك قد بدأت تذيقنا هذا العذاب. فهذه الزجاجات القائمة تدعونا، وهذه الأقداح المصفوفة تغرينا، وأنت تشغلنا عنها بما تخوفنا من أمر قيصر وبأسه بعد أن حرقت أجوافنا بما قدمت إلينا من طعام، وجففت حلوقنا بما صببت علينا من نذير. فلنسق هذه الأقداح الظامئة، ولنطفئ هذه الأجواف المحترقة، ولنرطب هذه الحلوق الجافة، ولنقدم الطاعة إلى «دينوزوس» في ظلمة الليل، والإذعان إلى قيصر في وضح النهار.
ثم نهض فخيل شيئا من رقص «دينوزوس»، وأسرع إلى المائدة فملأ قدحا قدم منه قطرات إلى «دينوزوس»، ثم صبه في فمه صبا، ثم ملأ الأقداح الثلاثة فقدم إلى صاحبيه، وعاد إلى مجلسه وفي يده قدحه يحسو منه حسو الطير ويقول: لست أرى بهذه القسمة بأسا: الليل ل «دينوزوس»، والنهار لقيصر. وإن شئتما فليكن النهار قسمة بين قيصر والمسيح: لقيصر شطر النهار، وللمسيح شطره الآخر. ولكنكما كنتما تقولان إن بين قيصر والمسيح حلفا فلا حاجة إذا إلى أن نقسم النهار بينهما، فلنقدم النهار كله إلى قيصر فسيرضى المسيح، كما كان عامة الناس يقدمون عمرهم كله لقيصر فيرضى «جوبتير»، أما أنا فهذا الرأي يرضيني كل الرضا، يحقق آمالي ومآربي، ويرضي حاجاتي ومنافعي، ويرضي بنوع خاص رأيي وفلسفتي. فما يمنعني أن أكون من عامة الناس حين تغمرنا الشمس بضوئها هذا الفظيع الذي لا يخفى عليه شيء ولا يستتر من دونه أحد، وأن أكون من خاصتهم حين يغمرنا الليل العطوف الأمين بظلمته الحصينة المتينة التي لا تظهرنا إلا على نفوسنا، والتي تتيح لشخصياتنا أن تسترد ما فقدت من حرياتها في ضوء النهار، والتي لا يلمع فيها إلا هذه الأشعة الضئيلة التي ترسلها إلينا النجوم كأنها التحية الخفية يرسلها الحبيب إلى عاشقه بمأمن من الرقباء. قال ذلك ثم أفرغ قدحه في جوفه، ونظر إلى صاحبيه في شيء من الإشفاق والازدراء وهو يقول: ما أقل نشاطكما للشراب! وما أشد فتوركما عن «دينوزوس»! ما كنت أحسب أن خوف قيصر يغنيكما عن نبيذ ساموس. أفرغا قدحيكما فإن جوفي يحرقه الصدى. وما أدري فيم هذا القصر الضخم، والمنصب الفخم، والثراء العريض؟ هلم يا سيدي فادع لنا بعض إمائك يغنين ويرقصن ويطفن علينا بالأقداح والأكواب، فما عبد «دينوزوس» بخير من الغناء والرقص والشراب.
قال «كلكراتيس» في هدوء يملؤه الجد وقد غشى وجهه العبوس: ليس الأمر من اليسر بحيث تظن. وما أرى إلا أن خوف قيصر هو الذي يدفعك إلى الشراب ثم إلى السكر.
अज्ञात पृष्ठ