هنالك رأى الطفل قبر أبيه. وهنالك لعب الطفل مع أطفال مثله سيكونون له أصدقاء وأنصارا حين يجد الجد، وحين يبلغ الكتاب أجله، وحين يتم في الأرض ما قدر في السماء. حتى إذا قضى الطفل وأمه وطرا من زيارة الأرض الموعودة، عاد بين أميه الكريمتين إلى موطنه بمكة. ولكن قضاء الله يجب أن ينفذ، وحكمة الله يجب أن تبلغ، وإرادة الله يجب أن تكون.
فلا يكاد الطفل يبعد عن يثرب حتى تلم العلة بأمه كما ألمت بأبيه قبل أن يصل إلى الدنيا. ولا يكاد الطفل ينتهي إلى الأبواء
3
حتى ينزع الموت منه أمه أو ينزعه من أمه، كما نزع الموت منه أباه أو كما نزعه من أبيه.
وكذلك أديت الأمانة إلى الأرض، وذهب عبد الله وذهبت آمنة بعد أن أدياها. وأصبح الطفل كما أراد الله له أن يكون يتيما قد فقد أمه وفقد أباه، وليس له من يئويه إلا الله الذي قد وعد بإيوائه وكفالته، وحفظه وحمايته من العاديات.
لقد خلص الطفل لحاضنته من دون الناس. فلتقف عليه نفسها كلها، لتقف عليه حبها كله، ولتخلص له كما خلص لها. وانظر إليها تعود بالطفل إلى جده وأعمامه وحيدا فريدا، ليس له من يرعاه أو يكلؤه إلا قلبها العظيم الكريم.
من ذلك الوقت أصبحت للطفل أما، رعته صبيا وشابا، فرغت له ولم تشغل عنه بأحد ولا بشيء. حتى إذا بلغ سن الرجال واتخذ له أسرة، وأوى زوجه خديجة بنت خويلد، نظر إلى هذه الأمة التي نشأته ونعمته بحبها وحنانها، فأعتقها ورد لها حقها الكامل في الحياة الحرة الكريمة. هنالك اتخذت لها زوجا من أهل يثرب كان مقيما بمكة، فعاشت معه ما شاء الله أن تعيش، ورحلت معه إلى يثرب، حتى إذا مات عادت إلى ابنها الأول ومعها ابنها الثاني أيمن بن عبيد، فعاشت في كنف هذا اليتيم وعاش معها ابنها سعيدين ناعمين.
ثم يتم الله نعمته على هذا اليتيم، ويختاره لما قدر له من الكرامة واحتمال الأعباء الثقال، فلا تشغله نعمة ولا محنة ولا راحة ولا جهاد عن أمه هذه. وانظر إليه يتحدث عنها إلى أصحابه فيقول هذه الكلمة التي ملؤها البر والحنان والوفاء: «إنها بقية أهل بيتي!» وانظر إليه حريصا على أن تحيا وتنعم بالحياة، حريصا على أن ألا يكون حظها من السعادة في هذه الدنيا أقل من حظ غيرها من الحرائر، انظر كيف يلتمس لها الزوج فيقول لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.»
هنالك أسرع مولاه زيد فاتخذها له زوجا.
إيه أيتها الأم الكريمة الرحيمة! لقد منحت ابنك صبيا وشابا كل ما كنت تستطيعين أن تمنحيه من الحب والود، ومن العطف والحنان. وها هو ذا الآن قد بلغ ما قدر الله أن يبلغ من ارتفاع المكانة وعلو المنزلة وجلال الخطر! انظري! إنه ليؤذي في سبيل الله. إنه ليمتحن في نفسه وفي عشيرته وفي أصحابه. إنه ليلقى في ذلك أشد الجهد، ويحتمل في ذلك أعظم الثقل، ويستقبل ذلك بأحسن الصبر. انظري إليه وانظري إلى نفسك! إنك لتحبينه وتكبرينه وترحمينه! لقد استجبت له حين دعا، وآمنت به حين أنذر وبشر. انظري! إن قومه ليأتمرون به ليقتلوه أو يخرجوه أو يثبتوه.
अज्ञात पृष्ठ