خرج تبع من اليمن غازيا في جيش لم تعرف الأرض مثله عددا وعدة وبأسا وحدة، وغنى وثروة! فلم يدع تبع في طريقه شيئا أتى عليه إلا احتواه، ولا بلدا مر به إلا أذله. وقد دان له النجد والغور، وأذعن له الحجاز والشام، وعنت لسلطانه مصر وإفريقية، وأمعن في المغرب حتى مر بعمود هرقل، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي كانت تقيم عليه ظلمات دائمة لا تفرقها نجوم الليل ولا شمس النهار. فلما رأى تبع أن قد ملك مغرب الأرض عاد أدراجه قاصدا الشرق، فأمعن فيه غزوا وفتحا، وثل العروش وهزم الجيوش، وأسر الملوك واسترق السادة العظماء، وملأ يديه من السبي والمال. وما زال ماضيا أمامه يخرج من نصر إلى نصر، وينتقل من فوز إلى فوز، وجيشه المظفر يتبعه فرحا مرحا، تغريه الحرب بالحرب، ويطمعه الظفر في الظفر، ويواتيه الحظ، حتى انتهى إلى أقصى الشرق، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي تخرج منه نجوم الليل إذا كان المساء، وشمس النهار إذا كان الصباح.
هنالك انقلب تبع راجعا إلى اليمن، وفي نفسه حزن ألا يتاح له من الظفر أكثر مما أتيح له، وألا تهيأ له الوسائل ليغزو هذا البحر الذي انتهى إليه من ساحل إلى ساحل، ويرى هذه الطريق التي تقطعها الشمس وتقطعها النجوم حين تأوي إلى أحد ساحليه لتنام، فتنام ولكن في غير سكون، وتهجع ولكن في غير استقرار؛ إنما تعبر بها زوارق من ذهب وفضة، وأخرى من لؤلؤ وياقوت. وما تزال هذه الزوارق تعبر في دعة وهدوء حتى تبلغ الساحل الآخر، فتصعد في السماء لتبعث الضوء والحياة إلى الناس والأشياء. ونفس الإنسان واسعة الأمل بعيدة أمد الرجاء، ولا سيما حين يواتيها الحظ ويقدر لها الفوز ببعض ما تريد، وكانت نفس تبع في أكبر الظن تؤمل فتبعد في الأمل، كما عملت فأبعدت في العمل، وكانت تتمنى لو أتيح لها أن تطأ أمواج هذا البحر بهذا الجيش الذي وطئت به أكناف الأرض. ومن يدري! لعلها أن تظفر بزورق أو غير زورق من هذه الزوارق التي تعبر عليها النجوم. ومن يدري! لعلها أن تقطع طريق النجوم في السماء بعد أن قطعت طريقها في البحر، وبعد أن قطعت طريق ضوئها على الأرض. على أن نفس تبع لم تكن تعرف اليأس وإن كانت تعرف الإرجاء! فلم ييأس تبع من غزو النجوم في عقر دارها، وإنما أرجأ ذلك إلى أن يتخذ له العدة، ويهيئ له الوسيلة، ويمد له الأسباب.
عاد إذا تبع سعيدا يرافقه الظفر والأمل. حتى إذا كان قريبا من اليمن وقف عند هذه المدينة الصغيرة التي كانت تسمى «يثرب»، والتي ملكها لأول عهده بالخروج، والتي ترك فيها أحد أبنائه يشرف منها على بلاد العرب. أنكر شيئا لم يكن يقدره ولا يفكر فيه: لم يخرج ابنه للقائه من بعيد، ولم يخرج للقائه من قريب، ولم ير من حوله استبشارا بمقدمه ولا إكبارا لمنزله، وإنما رأى حصونا مغلقة وآطاما قام عليها الجند كأنهم يتأهبون للقتال. لم يحتج تبع إلى بحث واستقصاء ليعلم أن القوم قد غدروا ومكروا، وقتلوا ابنه غيلة، وأبوا أن يتسلط عليهم أحد غيره، أو أن يسود فيهم من ليس منهم. وهم الآن يستعدون للحرب، ويتأهبون للدفاع عن أنفسهم مستميتين في ذلك، مزدرين ما سيلقون من جهد، وما سينزل بهم من بلاء.
ولم يكن من اليسير على تبع أن يتبين العواطف التي كانت تثور في نفسه، والخواطر التي كانت تزدحم في قلبه، فقد كان محزونا أشد الحزن، ملتاعا أشد اللوعة لفقد ابنه العزيز الذي كان يراه زينة لملكه وذخرا لدولته، وقرة لعينه قبل كل شيء. وقد كان مغضبا أشد الغضب محفظا أشد الحفيظة أن يثور به هؤلاء النفر من الأوس والخزرج فيخرجوا عن طاعته ويجهروا بمعصيته، ويقتلوا ابنه، ويضربوا للأحياء من حولهم مثل التمرد والثورة. وكان على هذا كله معجبا بهذا النفر من الأوس والخزرج الذين لم يخافوه ولم يخشوا بأسه، ولم يمنعهم بطشه العظيم وسلطانه العريض أن يثوروا به ويخرجوا عليه، ولم يدفعهم مقدمه ومعه الظفر والأمل، ومن ورائه هذا الجيش الضخم المنتصر، إلى أن يسرعوا فيقدموا له الطاعة والمعذرة، ويلتمسوا عنده العفو والمغفرة؛ وإنما ثبتوا له كراما، وتلقوه أباة للضيم، حماة للحرم، مستعدين لاحتمال المكروه.
على أنه لم يطل الوقوف عند هذا الإعجاب بالأوس والخزرج، والإكبار لحفاظهم وذودهم عن الذمار، وإنما مضى يتبعه حزنه وغضبه، فأقسم ليدمرن يثرب تدميرا، وليسوين حصونها وآطامها بالأرض هدما وتحريقا، وليجعلن ما كان يحيط بها من الحدائق والرياحين، ومن الشجر والنخيل، صحراء جرداء كأن لم تعرف من قبل خضرة ولا ظلا.
ولم يرد أن يستأني بذلك أو يبطئ فيه، فما هي إلا أن يأمر كتائبه بالزحف، مقدرا أن الأمر لن يحتاج إلى وقت ولا إلى جهد، ولن يكلف جيشه الظافر مشقة ولا عناء. وأين يقع هؤلاء النفر من الأوس والخزرج من دول عظيمة أفناها، وبلاد عريضة احتواها! وأين يقع قادتهم وسادتهم من هؤلاء الملوك الذين يرسفون في السلاسل والأغلال، وقد جاء بهم أسرى من أقصى الشرق ومن أقصى الغرب، ليجعلهم ملهى لأهل صنعاء حين يعود إلى صنعاء!
ولكن كتائبه لم تكد تتقدم حتى تأخرت، ولم تكد تهجم حتى ارتدت، وإذا هؤلاء النفر من الأوس والخزرج أشد مضاء وأحسن بلاء مما كان يظن، ومن كل من لقي في فتحه البعيد من الجيوش والأجيال. لقد كان استهان بأمرهم واستصغره؛ لأنهم لم ينصبوا له الحرب حين مر بهم غازيا، وإنما تلقوه مذعنين له مؤمنين لسلطانه. رأوا فيه رجلا منهم فلم يمكروا به ولم يكيدوا له، حتى إذا رأوا من بغي ابنه وتجبره ما أحفظهم ثاروا للعزة، وغضبوا للكرامة، وقتلوا الطاغية وتأهبوا لحرب أبيه.
رأى تبع هذا فازداد بالقوم إعجابا ولهم إكبارا، ونصب لهم حربا تلائم هذا الإعجاب والإكبار. ولكنه لم يلبث أن اشتد إعجابه وعظم إكباره حين أقبل الليل، فإذا هو لم يبلغ من القوم شيئا، وإذا هم يعلنون إليه أن قد أقبل الليل، وأن حرب الليل ويل كل الويل، وأنهم يضيفون عدوهم في الليل، ويقاتلون عدوهم في النهار. هنالك لم يتمالك تبع أن عطفته الرحم على قومه، وأخذته الكبرياء بما فيهم من عزة وكرم، وصاح: «إن قومنا لكرام.» ثم أمر من أذن في الجيش بالموادعة حتى يشرق الصبح.
واتصلت الحرب طويلة مضنية بينه وبين هذا الحي من أهل يثرب: يقتتلون أشد القتال ما أضاءت الشمس، ويتوادعون أحسن الموادعة ما أظلم الليل، حتى أخذ السأم يسعى إلى هذه النفس التي لا تعرف السأم وحتى هم أن يستقبل الصباح بغارة مطبقة لا تبقي ولا تذر، فإما قهر القوم وإما قهره القوم.
وهو في هذا النحو من التفكير والتقدير، وإذا حاجب من حجابه يدخل عليه فيلثم الأرض بين يديه، وينبئه أن شيخين من هذا الحي المحالف للأوس والخزرج من يهود يستأذنان على الملك، ويلحان في لقائه، ويتقدمان بما يتقدم به السفراء من حق الأمن والعافية والتكرمة، فيأمر الملك بإدخالهما. فإذا كانا بين يديه لم يركعا، ولم يسجدا، ولم يلثما أرضا، ولم يعفرا خدا بالتراب، وإنما هي تحية فيها الإكبار والإجلال، وفيها عزة وأنفة، وفيها شيء من التواضع والخشوع لم يألفهما الملك من أهل هذه البلاد. فإذا أذن لهما بالجلوس وسألهما عما أقبلا به، قال أحدهما: أيها الملك! لم نأتك سفيرين، ولم نحمل إليك رسالة من عدوك، ولو قد عرفوا أنا نسعى إليك لحالوا بيننا وبين ذلك، وللقينا منهم شرا. قال: فأنتما إذا لاجئان إلي، كارهان للقوم؟ وحدث نفسه بأنه سيجد عندهما ما يعينه على ما يريد بالقوم ومدينتهم. قالا: كلا أيها الملك! ما لجأنا إليك ولا كرهنا من قومنا شيئا، وإنما أقبلنا ناصحين لك رفيقين بك، نريد، لو سمعت لنا، أن ننهاك عن هذه الحرب التي لن تجدي عليك شيئا، ولن تبلغك من هؤلاء الناس شيئا. لقد أدركت وترك بمن سقط في ميدان القتال من هؤلاء الناس، فحسبك ما بلغت، وانصرف راشدا، فإنك إن نصبت الحرب لهذا الحي ما بقي من عمرك، وهو طويل ممدود لك فيه، لم تجد إلى قهرهم سبيلا. ولقد أبليت فأحسنت البلاء، ولقد غزوت فأمعنت في الغزو، ولقد أزلت الممالك وأسرت الملوك، ولقد نصبت لأقوى دول الأرض وأعظمها بأسا، فلم تثبت لك ولم تمتنع عليك. ثم ها أنت ذا أمام هذه المدينة الصغيرة، وهؤلاء النفر القليلين من قومك، لا يتاح لك الظفر ولا يتأتى لك الانتصار. ألم يكن لك في هذا عبرة تدعوك إلى التفكير وتحملك على أن تسأل نفسك كيف دانت لك الأرض كلها وامتنعت عليك منها هذه الرقعة الضيقة؟! قال: لقد سألت نفسي وأطلت السؤال، ولكني لم أجد له جوابا. ولقد فرحت بكما حين علمت أنكما لا تحملان إلي سفارة ولا رسالة، وقدرت أنكما ستدلاني على مكان يؤتى منه هؤلاء الناس.
अज्ञात पृष्ठ