सीरा के हाशिये पर

तहा हुसैन d. 1392 AH
145

सीरा के हाशिये पर

على هامش السيرة

शैलियों

وبينما كان رائحا في ذات يوم إلى حانته تلك يشرب فيها ويطرب وينغص على شباب قريش شربهم وطربهم، عرض له في بعض الطريق شيخ أعرابي حسن الوجه، رائق المنظر، لولا أنه كان غليظ الزي خشن الثياب، يكاد يبدو عليه الضر، لولا أنه يتجمل ويروض نفسه على ما لم يتعود الأعراب أن يروضوا أنفسهم عليه. فلما رأى عمرو بن هشام هذا الشيخ مقبلا عليه، رماه بنظرة سريعة فيها كثير من السخرية وقليل من الحذر، وهم أن يمضي لوجهه. ولكن الشيخ استوقفه في رفق، فأظهر عمرو أنه لا يحفل به. ولكن الشيخ رفع صوته قليلا بهذه الكلمة: «مكانك يا فتى فإن لي إليك حديثا.»

وبلغ هذا الصوت أذن الفتى فروعه شيئا، ولم يدر الفتى أيحب هذا الصوت أم يكرهه، وأراد ليمضي أمامه ولكن رجليه لم تطاوعاه، فقام مكانه كأنما ثبتت قدماه في الأرض تثبيتا. ودنا الشيخ منه يسعى متباطئا قصير الخطى، حتى انتهى إليه فوضع إحدى يديه على كتفه في رفق وقال له في صوت بلغ أعماق قلبه: «لا ترع يا بني فما أريد بك إلا خيرا.» قال الفتى في صوت مضطرب يريد أن يثبت: «من تكون أيها الشيخ؟ وماذا تريد؟» قال الشيخ: «ستعرف من أكون، وستعرف ماذا أريد، ولكن تعلم أني بعد أن وضعت يدي هذه على كتفك هذه قد ملكت أمرك كله، فلن تنطق إلا بلساني، ولن تعمل إلا برأيي، ولن تصدر إلا عن أمري. وآية ذلك أنك ستحاول أن تمضي الآن أمامك فلن تطاوعك رجلاك، وستحاول أن تعود أدراجك فلن تطاوعك رجلاك، فاجتهد أن تتقدم، ثم اجتهد أن تتأخر، فلن تجد متقدما ولا متأخرا، ستظل قائما مكانك حتى آذن لك في أن تتقدم أو تتأخر. ثم تناءى عنه قليلا وأشار إليه أن جرب قدميك إن شئت. وهم الفتى أن يخطو إلى أمام فلم يستطع، كأنما شدت قدماه إلى الأرض بأسباب الرصاص. وهم الفتى أن يتحول ليرجع أدراجه فلم يستطع، كأنما استحال جسمه إلى تمثال نحت من الصخر الصلد. وهم الفتى أن يدير رأسه إلى يمين أو إلى شمال فلم يجد إلى ذلك سبيلا. وهم الفتى أن يبعث من فيه صيحة يلتمس بها الغوث فلم يجد في جوفه إلا نفسا خائرا لا يبلغ أن يكون صوتا يسمعه الناس.» والشيخ الأعرابي قائم منه غير بعيد ينظر إليه باسما له رفيقا به عطوفا عليه. ثم دنا الشيخ منه قليلا قليلا، حتى إذا حاذاه ضحك له ضحكة فيها كثير من الحب وكثير من السخرية، ولكنها سخرية لا تخلو من حنان وعطف، ثم قال له في صوت حلو: «الآن وقد عرفت سلطاني عليك فامض لوجهك، حتى إذا بلغت حانتك تلك فاشرب فيها ما شئت أن تشرب، واطرب فيها ما أحببت أن تطرب، وقل فيها ما أردت أن تقول، فلن تسوء قومك منذ الآن مهما تقل أو تفعل، ولن تسمع منهم إلا ما يرضيك، ولن ترى منهم إلا ما يسرك. لست أكبرهم سنا ولا أعظمهم قدرا ولا أكثرهم مالا، ولكنهم سيسمعون لك كما لو اجتمع لك هذا كله. ولن يطول بك المقام في حانتك تلك حتى يأتيك رسول عمك الوليد بن المغيرة أن زره من الغد فإن له معك شأنا. ولا تعجل على نفسك ولا على أصحابك ولكن خذ من اللهو بأوفر حظ ممكن. ثم إذا انصرفت لتعود إلى أهلك فاذكر أني أنتظرك في هذا المكان، ولك أن تسلك إلى بيتك أي طريق شئت فإنك لن تبلغ دارك ولن تغلق الباب من دونك حتى تراني جالسا أنتظرك. وستراني مهما تكن ظلمة الليل، وستراني وحدك لن يراني معك أحد، وسأناجيك وستسمعني وحدك لن يسمعني معك أحد. امض لوجهك، ولا تحاول أن تخالف عن أمري؛ فقد ملكت ناصيتك منذ اليوم.»

ونظر عمرو بن هشام حوله فلم ير أحدا، وحرك رجليه فاستجابتا له، وحرك يديه فاستجابتا له، ولوى وجهه إلى يمين وإلى شمال فلم ير في ذلك عسرا. وقد شق عليه ما رأى، وشق عليه ما أحس وظن أن قد ألم به طائف من الجن، وهم أن يستغيث ولكنه استحيا، وهم أن يتحدث إلى أصحابه في الحانة ببعض ما رأى ولكنه استحيا، فأقبل على لهوه وشرابه كأن لم يكن شيء، وأقبل على أصحابه وأترابه يحدثهم أرق حديث وأحسنه. يقول بعضهم لبعض: ما نرى إلا أن أبا الحكم قد عاد إلى خير أيامه، وذهبت عنه العلة التي كانت ألمت به.

ولم يكد يبلغ الثاني من أقداحه حتى أقبل غلام من غلمان عمه الوليد، فهمس في أذنه أن ألمم بعمك من غد فإن له في لقائك أربا. فوقع همس الغلام في قلب عمرو موقعا غريبا نبهه إلى الشيخ الأعرابي وقد كاد ينساه، ولكنه على ذلك مضى في لهوه مقبلا عليه مغرقا فيه وفي حديثه إلى أصحابه وأترابه يرضيهم بجده ويسرهم بدعابته، ويسمع منهم خير ما أحب، وهو مع ذلك لا يكاد يخلص لما كان فيه من لذة الشراب والحديث والغناء، يذكر الشيخ الأعرابي بين حين وحين فتغشى قلبه غاشية من خوف وحزن، ثم لا يلبث أن يدفع ذلك عن نفسه، ويمضي في منادمة قومه، سمح الطبع، كريم النفس فصيح اللسان بأعذب الحديث. فلما تقدم الليل واستوفى القوم حظهم من السمر وهموا أن يتفرقوا، كان عمرو قد استرد مكانه في قلوب أصحابه جميعا، فيأبى شيبة بن ربيعة وعلي بن أمية بن خلف أن يفارقاه حتى يبلغاه داره. يقول لهما عمرو: «والله ما هذه لكما بطريق، وما تعودت منكما هذا الرفق، وما أرى أن بي بأسا، وما أحسب أن أحدا يرصدني في الطريق، فانصرفا إلى أهلكما وصلتكما رحم.» فيقولان له: «والله ما بك شيء مما ذكرت، وما بنا رعاية لك أو إشفاق عليك من مكروه، وإنما عدت إلى حسن سابقتك فينا، فنريد أن نعود إلى حسن عهدك بنا. ولا والله ما نصاحبك إيثارا لك بصحبتنا بل إيثارا لأنفسنا بصحبتك. ولو استطعنا لسمرنا معك إلى آخر الليل، وإنما أنت صديق فقدناه ثم وجدناه.» ويمضون وفي نفس عمرو بن هشام شيء من الرضا والأمن؛ فقد كان يكره أن يلقى الشيخ وحده، وما كان يشك في لقائه، وفي نفسه شيء من الحياء فقد كان يكره أن يراه الشيخ مع صاحبيه فيظن به جبنا أو فرقا. ومع ذلك فقد مضى مع صاحبيه يقول لهما ويسمع منهما كأن نفسه لم تكن تحدثه بشيء، وكأن قلبه لم يكن يفرق من شيء. فلما بلغ المكان الذي لقي فيه الشيخ آخر النهار أبطأت قدماه شيئا ومد بصره، فيرى الشيخ قائما ينتظره ويبتسم له ابتسامة فيها كثير من الرضا، يراه وحده ولا يشك في أن صاحبيه لا يريان ما يرى. وآية ذلك أنهما لم يكفا عما كانا فيه من حديث، ولم يلقيا بالا إلى شيء لأنهما لم يحسا شيئا.

ويمضي القوم أمامهم والشيخ الأعرابي معهم يراه عمرو دون صاحبيه، ويكاد يؤذن صاحبيه بمكانه، ولكن شيئا من حياء يرده عن ذلك: فقد كان يخشى أن يظن به صاحباه الجنون. فما حديثه إليهم عن شيخ يراه هو ولا يريانه هما؟ وكيف به لو قص عليهما ما كان بينه وبين الشيخ آنفا؟ وكيف به لو حدثهما بأن الشيخ قد أنبأه بأن الأمور ستصفو بينه وبين أصحابه وأترابه، وبأن عمه سيدعوه لزيارته بعد ما كان بينهما من قطيعة، وبأن هذا كله قد كان! ولكنه لا يحدث صاحبيه بشيء بل لا يظهر لهما أن شيئا يدور بخلده غير ما يدور بينه وبينهما من حوار في أمر هذه القافلة التي ستفصل بعد يوم أو يومين، والتي تحمل من الذهب والورق والعروض إلى بلاد الروم ما لم تحمله قافلة لقريش منذ أعوام، والشيخ الأعرابي يرمق عمرا معجبا به عاطفا عليه. حتى إذا بلغ القوم دار أبي الحكم حيا بعضهم بعضا واتعدوا نادى قومهم في المسجد إذا كان الغد. وانصرف شيبة وعلي، ودخل عمرو داره، ولكنه لم يدخلها وحده وإنما دخلها معه الشيخ باسم الثغر مشرق المحيا يقول: «لا عدمتك بطلا من أبطال قريش! أشهد لقد أنجبت الحنظلية. لقد شهدتك بين قومك تجد ما تجد من الخوف، وتنكر ما تنكر من الأمر، لا يصرفك ذلك عن الحديث والمنادمة. ولقد شهدتك تحاول أن تخلص من صاحبيك لا إيثارا ولا إسراعا إلي ولكن إبقاء على نفسك أن أظن بك جبنا أو فرقا. ولقد قرأت ما كان يدور في نفسك من الخواطر حين لقيتني فأخفيت هذا كله لم يظهر أحد من دخيلة نفسك على شيء. وكذلك يجب أن يكون الرجل، ولا سيما حين تهيئه الأيام لأمور جسام.»

قال عمرو ولم يجد في نفسه خوفا ولا فرقا، ولم ينكر مكان هذا الشيخ منه: «ألا ترى أنك قد أثقلت علي منذ الليلة؟ ألا تنبئني ما خطبك؟ وماذا تريد مني؟!»

قال الشيخ: «لك أن تلقاني بما أحببت من رفق وغلظة، ولك أن تحدثني بما شئت من لين القول وعنيفه، فقد وطنت نفسي على أن أحتملك كما أنت؛ لأن كل شيء فيك يروقني ويعجبني. وستعلم حين يتصل بينك وبيني الحديث، أني لم أثقل عليك منذ الليلة ولن أثقل عليك إلى آخر الدهر.» ثم ضرب على كتفه مبتسما وهو يقول: «فسأكون صديقك وحليفك إلى آخر الدهر، وستحمد مغبة هذه الصداقة وعواقب هذه الحلف، ولكن ابتغ لنا مجلسا، فما يحسن أن يطول بنا الحديث ونحن قائمان. هلم أبا الحكم! لقد عهدتك جميل اللقاء للضيف، تحسن قراه إن ألم بك، فما لك لا تعرض علي طعاما ولا شرابا؟ بل ما لك لا تعرض علي مجلسا أستقر فيه؟ إنك تريد أن أنتسب لك كما تعود الضيف أن يفعلوا حين يلمون بمن يضيفهم من الناس. وما يغنيك أن أنتسب لك وأنت لن تفهم عني نسبي إن عرضته عليك؟! وهل تفهم عني إن قلت لك إنني ابن النار منها خرجت وإليها أعود إن كنت إليها عائدا لا أعرف لي غيرها أبا ولا أما.»

قال عمرو بن هشام وفي صوته شيء من الاضطراب: «ما رأيت كالليلة شيخ سوء يتحدث بكلام لا غناء فيه! ما ابن النار منها خرجت وإليها تعود؟!»

قال الشيخ: «ومع ذلك فليس لي نسب غير هذا. لا تعجل على نفسك فإن لكل شيء إبانه. ابغ لنا مجلسا، ولا تكلف نفسك القرى فقد نام أهل الدار، وما ينبغي أن توقظهم ولا أن تكلفهم قرى ضيف لا يرونه ولا يسمعونه.»

قال عمرو: «فتظنهم لا يسمعوننا الآن ونحن نتحدث؟ وهبهم لا يسمعون صوتك أنت، أتظنهم لا يسمعون صوتي أنا؟ وما تراهم يقولون حين يسمعونني أتحدث إلى شخص لا يرونه ولا يحسون مكانه؟»

अज्ञात पृष्ठ