सीरा के हाशिये पर

तहा हुसैन d. 1392 AH
143

सीरा के हाशिये पर

على هامش السيرة

शैलियों

به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال: قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال:

اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم . قال: فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها. فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.»

4

ثم سكت ورقة فلم يقل شيئا، وكف نسطاس فلم يكتب شيئا، وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما في شيء. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم. وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق، ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة صامتة ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة، وإذا دموعهما تنهل في صمت، وإذا نسطاس يقول لصاحبه: «ما أحسن ما كوفئنا يا ورقة بعد شدة الجهد وطول الانتظار! ولكن ممن سمعت حديثك هذا الذي حدثتني؟» قال ورقة وقد أشرق وجهه بشرا وابتهاجا: «سمعت حديثي هذا من خديجة أول الأمر، فما أنكرت منه شيئا وما شككت في أن هذا الملك الذي جاء محمدا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فعرفت أن محمدا لم يفجأ بلقاء الملك ولا بتلقي الوحي، وإنما هيئ لذلك شيئا فشيئا حتى أنكر نفسه وأساء بها الظن؛ فقد جعل قبل أن يأتيه الملك بوقت طويل يرى من آيات ربه أشياء لم يكن يراها من قبل، فينكر ما يرى ويظن بنفسه العلة، ويصرفها عما كان يرى ويسمع، فلا تكاد تنصرف عنه، أو لا يكاد ينصرف عنه ما كان يرى ويسمع. وكان أول أمره من ذلك أن صدقته أحلام الليل صدقا لم يألفه الناس ولم يألفه هو فيما مضى من دهره، فكان لا يرى رؤيا إلا صدقت وصحت وتحققت كأنها فلق الصبح، حتى كاد النوم يكون آثر عنده وأحب إليه من اليقظة. ثم أحس حب الخلوة والحاجة إليها، فكان لا يلم بمكة إلا قليلا، ثم يخرج منها فيمضي أمامه في شعاب الجبال مستأنسا بهذه الوحشة مطمئنا إلى هذه الوحدة. ولكن خلوته هذه لم تلبث أن رابته وأثارت في نفسه الظنون، أو قل لم تلبث أن فارقته، وإذا هو لا يخلص لنفسه ولا تخلص له نفسه ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وإذا الفرق بين الليل والنهار قد ألغي بالقياس إليه إلغاء، فهو لا يرى إلا نورا يأخذه من كل وجه سواء أكانت الشمس مشرقة أم كان الليل مظلما مدلهما، فقد الظلمة فقدانا تاما، ثم فقد السكون والصمت فقدانا تاما؛ فكان لا يمشي إلا سمع الأصوات تناجيه أحسن النجوى، وتحدثه أعذب الحديث وتحييه أكرم التحية، يسمع ذلك من الأشجار، ويسمع ذلك من الأحجار، ويسمع ذلك من حصباء الأرض، ويسمع ذلك من نسيم الجو، حتى أنكر نفسه أشد الإنكار، وحتى أقبل ذات يوم على خديجة مدلها مولها مذعورا يقول: تعلمين يا خديجة أني والله ما أبغضت شيئا كما أبغض هذه الأوثان التي تعكف عليها العرب، وما كرهت شيئا كما أكره ما ألف العرب من الكهانة، وإني مع ذلك لأجد أشياء أنكرها، وأخشى أن يلم بي لمم أو أن أصير إلى الكهانة. تقول له خديجة: لا بأس عليك! أنت أكرم على ربك وآثر عنده من أن يصنع بك هذا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتصنع المعروف، حتى كان ذلك اليوم الذي نبئ فيه.»

وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئا مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. ثم سكت ورقة لحظة ثم استأنف حديثه فقال: «وقد لقيت محمدا بعد ذلك، فسألته أن يعيد علي ما حدثتني به خديجة من شأنه وما حدثتك به آنفا، فيعيده علي؛ لا والله ما ينقص منه حرفا وما يزيد فيه حرفا، فيشرق الهدى في نفسي ويمتلئ قلبي يقينا ونورا، وأبشره بما ستبشر به أصحابنا في الإسكندرية وغيرها من مدن الروم، وبما ستنتشر أنباؤه في الآفاق من أنه نبي هذه الأمة. وأثبته وأوذنه مع ذلك بشيء من بعض العنت الذي سيلقاه من قومه.» قال نسطاس: «أوقد فعلت؟» قال ورقة: «نعم، ألسنا نقرأ في كتبنا أن قومه سيكذبونه وسيؤذونه وسيخرجونه وسيقاتلونه؟!» قال نسطاس: «بلي»: قال ورقة: «فقد تحدثت إليه ببعض ذلك، أولسنا نقأ في كتبنا أن علينا نصره وتأييده ما وسعنا النصر والتأييد؟» قال نسطاس: «بلى.» قال ورقة: «فقد وعدته بذلك، ولكن أنى لي هذا الفضل وإنما أنا هامة اليوم أو غد!» ثم استعبر واستعبر معه نسطاس. فلما سكت عنهما البكاء قال نسطاس: «وماذا كان صدى حديثك في نفسه؟» قال ورقة: «والله ما كدت أحسب أن قد كان لحديثي في نفسه صدى! دهش لما أنبأته به بعض الدهش، ثم أعرض عنه كأنه لم يسمع له. لا والله ما رأيت إلا حزما وعزما، وإلا يقينا وإيمانا، وإلا تصميما على أن ينهض بالأمانة ويؤدي الرسالة مهما يكتنفه من الأحداث والخطوب. وليتني كنت حاضر أمره!» قال نسطاس: «وليتني كنت حاضر أمره! ولكنك لن تحضر من أمره إلا قليلا، ولكني لن أحضر من أمره في هذه الأرض شيئا. والأقدار تجري بما تريد يا ورقة، وإنما نحن مأمورون، وعلينا أن نمضي لما أمرنا به حتى يبلغ الكتاب أجله.» ثم جثا الرجلان وبسطا أيديهما أمامهما وخفضا رأسيهما إلى الأرض وجعلا يصليان بلغة غير عربية وقتا غير قصير ثم نهضا، وتناول نسطاس قدحا فيه شيء من شراب، فبارك عليه ثم قدمه إلى صاحبه فشرب منه ثم أخذه هو منه فشرب سائره، ثم اعتنق الرجلان وخرجا من مجلسهما يسعيان في نفقهما الذي جعل يضيق شيئا فشيئا، حتى إذا بلغا السلم صعدا فيه، فوجدا الغلام قائما لم يبرح مكانه.

قال ورقة للغلام: «هل هيئ كل شيء؟» قال الغلام: «نعم! إن فرس نسطاس ينتظره في المكان الذي يعلمه.» قال ورثة لنسطاس: «فإنه الوداع إذا يا نسطاس!» قال نسطاس: «إنه الوداع.» ثم اعتنق الرجلان مرة ثانية، يقول ورقة لنسطاس: «انطلق راشدا مصاحبا» ويقول نسطاس لورقة: «وأقم موفقا مهديا.» ثم يغلق الباب من دون ورقة، وإذا هو قائم وحده ينظر عن يمين وينظر عن شمال ويرفع رأسه إلى السقف ثم يجثو باسطا يديه أمامه وهو يصلي بلغة لا تفهمها ولا تتكلمها قريش.

5

ومضت على عمرو بن هشام أيام لم يعرفها ولم ينكرها، كما أن قومه لم يعرفوه فيها ولم ينكروه. راح إلى دار نسطاس من يومه ذاك فألفاها قاعا صفصفا، فلما سأل عن صاحبه الرومي قال له من سألهم: والله ما ندري إلا أننا أحسسنا في دار نسطاس حركة وجه النهار فلم ننكر شيئا، فلما أمسينا رأينا الدار كما تراها. فانطلق إلى دار ورقة يستأذن عليه، فيقول له غلام ورقة: إن سيده يشكو بعض العلة ولا يستطيع أن يرى أحدا. ولو قد استجاب الفتى لنفسه لذهب إلى دار عمه الوليد بن المغيرة، ولكنه ذكر ما كان بينه وبين عمه في المسجد فأعرض عن لقاء الشيخ إعراضا. ولو قد استمع الفتى إلى ما ملأ قلبه من الضجر والضيق لعاد إلى بيته كئيبا كاسف البال سيئ الخلق فساء أهله وبنيه، ولكن ماذا جنى أهله وبنوه!

فينطلق الفتى إلى مجلس من تلك المجالس التي كان يجتمع فيها شباب قريش حين يقبل الليل يشربون ويطربون ويعبثون بكل إنسان وبكل شيء، حتى إذا بلغ مجلسهم تلقوه دهشين يقولون له: ويحك أبا الحكم! فأين أنت من نسطاس؟! قال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

अज्ञात पृष्ठ