زينة البنات! وأجمل النساء! ما هذا الهراء؟! لقد مضى منذ فارقها أربعون عاما أو يزيد، فإنها اليوم عجوز قد أشرفت على الستين أو جاوزتها ... نعم، ذلك حق، ولكن صورة أركماس مع ذلك لم تزل في خيالها صورة فتى رشيق، خفيف الحركة، معتدل القد، مصقول الخد، دائم الابتسام وإن لم يبتسم، وإنها لأعز عليه من أن يطلع في مرآتها بصورته هذه البشعة، فيمحو تلك الصورة الجميلة التي بقيت لها من سعادة ذلك الماضي البعيد.
لا لا، لقد مات أركماس، مات منذ بعيد تحت أخفاف البعير الهائج في دروب القاهرة، وإنما أنشره الله من موت لغاية واحدة، هي إدراك الثأر، وقد أدركه واستراح وأراح الناس من مظالم قنصوه الغوري، وليس في العالم اليوم من يذكر أركماس، غير امرأة وولدها، إن كانت هي وولدها لم يزالا كلاهما أو أحدهما في الأحياء، أما أرقم فإن كثيرا في القاهرة يعرفونه ويذكرون اسمه، وإن كثيرا منهم ليتمنون أن يعود، فليعد إلى القاهرة، وليجعل أول قصده إلى شيخه أبي السعود الجارحي يستغفره من بعض ما كان منه، ويسأله أن يأذن له في شرف الصحبة حتى يلقى الله، لقد مات قنصوه الغوري، فلا شيء هناك بعد يمكن أن يفسد بين شيخه وبينه، وقد انقطع ما بينه وبين الناس من أسباب المحمدة والمذمة ...
ولوى أرقم عنان فرسه فلم يدخل حلب، ولحق بقافلة من المهاجرين فصحبها على الطريق إلى دمشق، فالقاهرة ...
الفصل الثاني والثلاثون
أب وأم!
أناخ الركب على باب دمشق؛ ليتزود لما بقي من رحلته بعض الزاد من أسواق دمشق، ولكن فلول الجيش المنهزم لم تجد في دمشق زادا لمسافر ولا لمقيم؛ فقد خشيت المدينة العريقة أن تقع بين نارين من العدو الغازي، ومن الفلول المرتدة، فأغلقت أبوابها دون هؤلاء وأولئك جميعا؛ لعلها أن تجد في استقلالها بعض السلامة.
وخيمت القافلة على الطريق لتستريح يوما أو يومين، ثم تستأنف رحلتها إلى القاهرة، واجتمع الرجال لصلاة العشاء على ظهر البادية، ثم استداروا حلقات يسمرون قبل أن يأخذ النوم عيونهم، وجلس أرقم بين السامرين يتحدث وهم يستمعون إليه، وقد عرف منهم من عرف أنه أرقم الرمال صاحب الحلقة المشهورة في بساتين القبة.
ووجد أرقم نفاقا لبضاعته حين ظن أنه قد انقطع ما بينه وبين الناس من صلات، فجعل فنه ملهاة الفراغ ومسلاة الهم للقافلة المكدودة من مشقات السفار وأحداث الحرب، فكلما أناخ الركب في مرحلة من مراحل الطريق للراحة، فرش أرقم منديله وبسط عليه الرمل، وراح يتحدث إلى كل واحد من أصحابه على هواه، لا يرجو إلا أن يجفف دمعة المحزون، ويمسح على قلب البائس، ويهب لليائس الصبر والأمل، وذلك كل حسبه من الأجر على بضاعته.
وكان الركب على أبواب غزة، حين بدا لبعض نساء القافلة أن يدعون أرقم الرمال إلى خيمتهن؛ ليكشف لكل واحدة منهن عن بختها ...
ورأى أرقم بين النساء عجوزا في الستين أو هي جاوزتها، في عينيها بريق وعلى جبينها تاريخ مسطور، فلم تكد عيناه تلتقيان بعينيها حتى أحس كأنما تفضي إليه عيناها بسر من أسرار ماضيه البعيد، فحدق فيها مدهوشا لا يكاد يصدق أن شيئا مما يخطر في باله يمكن أن يكون، ثم أنغض رأسه وراح يخط بأصبعه في الرمل صامتا، وعيناه لا تطرفان، وخواطره تطوف به في الآفاق البعيدة ثم تئوب.
अज्ञात पृष्ठ