فقطب فيما يشبه الضجر وقال: أتوقع أن أسمع كلاما معقولا.
فقلت بحدة: لا تفاهم إلا بين المؤمنين.
ولما علمت بقرارهم في التخلي عن الملك بحجة الدفاع عن حياته قلت لآي: من ناحيتي لا أقر العودة إلى الكفر.
ورفض مولاي التراجع خطوة واحدة، ولكن كانت له خطته أيضا في تجنب الحرب الأهلية؛ فكان عازما على مواجهة الشعب وحده والجنود المتمردين، وكان كامل الثقة في قدرته على إعادتهم إلى حظيرة الإيمان، ولكن الحاشية آمنت بأنه سيقتل حتما، وأنهم سيلحقون به جزاء بقائهم على الولاء له. وتخلى عنه الجميع، وقد ضموني إلى قافلتهم المرتدة بقوة الجند، وأمروا الحرس بمنعه بالقوة إذا صمم على مواجهة الشعب. وحيل بينه وبين ما يريد بالفعل، ووجد نفسه وحيدا حبيسا في قصره، حتى نفرتيتي ذهبت مع الذاهبين، وعند ذاك غزا الحزن قلبه أمام ضعف الإيمان الذي بذل حياته الغالية في بثه وتثبيته. وقيل لنا عقب ذلك إن المرض تمكن منه وقضى عليه. والحق أني أشك في ذلك، وأرجح أن الأيدي الآثمة امتدت إليه في عزلته وانتزعت منه روحه الطاهرة الخالدة. وقد مات دون أن يعلم بأنني ما تخليت عنه إلا بالقوة، وفي اعتقادي أن نفرتيتي أبعدت عنه بالقوة أيضا، ولا أتصور غير ذلك أبدا.
وصمت مرة أخرى ليتنهد، ثم رنا إلي طويلا وقال: ولكنه لم يمت، ولا يمكن أن يموت، إنه الحقيقة الباقية والأمل المتجدد، ولينتصرن عاجلا أو آجلا، ألم يعد الإله بأنه لن يخذله؟!
ومال إلى خزانة فاستخرج منها لفافة من البردي، فأعطاها لي وهو يقول: إنها تحوي رسالته وأناشيده، اقرأها يا فتى، وليستجيبن لها قلبك المحب للحقيقة، فإنك لم تقم برحلتك لغير ما سبب ...
ماي
سعيت إلى لقائه في رنوكولبورا على الحدود حيث يقيم في خيمة بين جنوده من جيش الحدود. كان على عهد إخناتون قائدا لجيش الحدود، وما زال يشغل مركزه بكل جدارة في العهد الجديد. وقد وجدته كهلا عملاقا جاد الملامح معتزا بنفسه لحد كبير. وبعد إطلاعه على خطاب والدي قال بانفعال مرحبا بالفرصة التي دعته للتنفيس عن صدره: ذلك المارق، مجهول الأب الذي أذل بشذوذه أعناق الرجال! لقد سكتت طبول القتال، ونكست رايات المجد؛ ليرتفع صوت الغناء والطرب من فوق عرش الفراعين من حنجرة امرأة قبيحة الوجه متنكرة في إهاب الرجال. وقد أرغمت - أنا قائد الدفاع عن الإمبراطورية - على التجمد وأوصال الولايات تتمزق وتقع في قبضة المتمردين والأعداء، واستغاثات المخلصين من أصدقائنا تتلاشى في الهواء. أفقدنا ذلك المخبول شرفنا العسكري، وجعلنا هزأة للمعتدين وفريسة سهلة لقطاع الطرق. ومن حسن حظي أنني لم أكن ضمن حاشيته وإن اقتضى واجبي التردد على أخت آتون بين الحين والحين. وفي كل مرة كانت تتملكني الحيرة لخدع رجال مثل آي وحور محب وناخت لغر مشوه، وولائهم المذهل له ما بين القصر والمعبد. وكنت وما زلت مخلصا لآلهة بلادي وتقاليدها المتوارثة، يوم بلغني كفره غضبت غضبا شديدا، وعقدت العزم على الانضمام إلى المؤمنين إذا شقوا عصا طاعته. ويوم صدر الأمر بإغلاق المعابد وتشريد الكهنة أيقنت من أن اللعنة الكبرى ستحيق بنا، وستوجه ضربتها إلى الجميع غير مفرقة بين الخبيث والطيب. ولدى زيارة لي لطيبة، جاءني بليل الكاهن الأكبر لآمون، وسألني: هل تجد حرجا في هذا اللقاء؟
فأجبته بصراحة أدهشته: لي الشرف، وقصري رهن إشارتك.
فشكرني وقال: إنك من جيل الأبرار يا ماي. انظر إلى الناس كيف فقدوا السلوى والعزاء، كان أهل الإقليم يلوذون بآلهة ويقدمون القرابين، ويفزعون إلى كاهنهم في الملمات فيرشدهم في الحياة وحين الموت، ضاع المساكين كالأغنام الضالة ...
अज्ञात पृष्ठ