قال: وأما النجوم ذوات الأذناب فقد توهمها البعض عوالم في بدعة نشأتها تجهز فيها بواعث الوجود والحياة كما في السيارات، وافترضها غيرهم عوالم آخذة في الدروس والتلاشي، حتى المنجمون أنفسهم كانوا يتشاءمون لها كدلالة على النحس والبلايا، على أن المطلع على تفننات وأعمال الطبيعة يعتوره العجب لأقيسة افتراضية بناها الطبيعيون والفلكيون والفلاسفة؛ ليؤيدوا بها المذنبات سيارات حديثة أو عتيقة، في حين أنها ليست إلا كواكب متنقلة كرواد في المملكة الشمسية، وما أعدت لتكون كالسيارات مساكن آهلة بالسكان من البشر، إنما اختصاصها أن تنتقل من شموس إلى شموس؛ لتستقي منها الأصول الحيوية المنعشة فتفيضها فيما بعد على العوالم الأرضية.
قال: فلنتبعن بالفكر أحد النجوم المذنبات عند بلوغه البعد الأقصى من الشمس، ولنقطعن تلك السعة المديدة الفاصلة ما بين الشمس وأقرب النجوم، ولنتأملن في سير هذا المذنب المتنقل، فنجد فعل النواميس الطبيعية ممتدا إلى بعد لا تكاد المخيلة أن تصيبه، فهناك يبطؤ سيره إلى حد أن لا يتجاوز بعض الأذرع في الثانية، بعد أن كان يسير الألوف من الفراسخ في كل لحظة عند قرب دنوه من الشمس، ولا يبعد أن تتغلب عليه عند هذا الحد شمس أخرى أشد قوة ونفوذا من التي بارحها، فتجذبه إلى دائرة فلكها، وتحصيه في عداد تباعها، وعبثا ينتظر بعدها بنو أرضكم رجوعه في وقت عينته أرصادهم الناقصة، أما نحن فنجوز معه بالفكر إلى تلك الأقطار المجهولة، فنجد فيها من العجائب ما لا يصل إليه حد التصور ... قل منكم من لم يلحظ في الليالي الصافية الخالية من القمر سحابة نيرة منتشرة في أقصى السماء إلى أقصاها، تدعونها درب التبانة أو المجرة، وقد كشف لكم عنها مؤخرا المرصاد، فرأيتم فيها ملايين من الشموس، معظمها أبهى نورا وأعظم حجما وأهمية من شمسكم، إن المجرة في الحقيقة حقل فسيح، زرعت فيه زهور شموس وكواكب تتلألأ في أرجائها الرحبة، فالشمس وكافة السيارات والأجرام التابعة لها زهرة واحدة من تلك الزهور المنثورة في حقل المجرة، وعدد هذه الزهور، أي الشموس، لا يقل عن الثلاثين مليونا، تبعد كل منها عن الأخرى أكثر من ثلاثة آلاف ألف ألف ألف فرسخ، فمن هذا يستدل على سعة تلك المجرة الممتنع تصورها، وصغارة شمسكم بالنسبة إلى باقي الشموس، ثم حقارة بل عدم أرضكم ليس فقط بالنسبة إلى حجمها وسعتها المادية، بل أيضا وبالأخص إلى أحوال سكانها، الأدبية والعقلية.
ثم إن المجرة ذاتها مع ملايين شموسها ليست بشيء بالنسبة إلى الألوف من المجرات المنتشرة في أقاصي الفضاء، إنما تظهر أوفر سعة وسناء من غيرها؛ لاحتياطها بكم، ووقوعها تحت دائرة نظركم، في حين أن المجرات الأخرى متوغلة في أقاصي السماوات، فلا يكاد يستشفها مرصادكم، فإذا علمتم أن الأرض ليست بشيء في النظام الشمسي، وأن النظام الشمسي ذاته ليس بشيء في دائرة المجرة، وأن المجرة ذاتها ليست بشيء في عامة المجرات، وأن عامة المجرات أيضا ليست بشيء في سعة الفضاء غير المتناهية؛ كان سهلا عليكم إدراك حقارة الأرض، وعدم أهمية الحياة الجسدية.
إن الملايين من الشموس المؤلفة منها مجرتكم يحتاط بأكثرها سيارات وعوالم تستمد منها النور والحياة، فمنها نجم «سيريوس» مثلا ما يربو حجمه وبهاؤه على شمسكم ألوفا من المرات، والسيارات المحتاطة به تفوق سيارات الشمس كبرا وسناء، ومنها شموس مثناة، أي نجوم قوائم تختلف وظائفها الفلكية عن وظائف شمسكم، ففي السيارات المحتاطة بتلك الشموس المثناة لا تعد السنون والأيام كما في أرضكم، وأحوال الحياة فيها يتعذر عليكم تصورها، ومن الشموس أيضا ما لا سيارات لها، إنما أحوال سكناها خير الأحوال، وعلى الجملة إن تفننات هذه النجوم واختلاف أحوالها ووظائفها مما يقصر الإدراك البشري عن تخيلها.
إن كل ما ترون من النجوم والأجرام في القبة الزرقاء يختص بمجرة واحدة تدعى - كما قلنا - درب التبانة، ولكل منها سير مخصوص، مصدره قوة الجاذبية، فتسير ليس على سبيل العرض والمصادفة، وإنما في طريق معينة، مركزها الجرم الأصلي، فقد تحقق لكم مؤخرا أن الشمس ليست بنقطة مركزية ثابتة، بل تسير في الفضاء سابحة معها موكبها الحافل من السيارات والأقمار والمذنبات، وليس سيرها بعرضي، بل طريقها محدود، تسير فيه بصحبة شموس أخرى من طبقتها حول جرم آخر عظيم تولدت منه، إنما حركة سيرها وسير باقي الشموس رفيقاتها لا تصيبها أرصادكم السنوية؛ إذ يقتضي عددا عظيما من الأجيال لإنجاز إحدى هذه السنوات الشمسية.
ثم إن هذا الجرم العظيم - الذي تدور حوله الشمس مع سائر الشموس رفيقاتها - ليس أصليا، بل يدور هو أيضا بصحبة أجرام أخرى من طبقته حول نجم آخر أعظم منه، وهكذا قل عن هذا النجم الثاني إلى أن يحل العجز بمخيلتنا عن تصور هذه السلسلة المرتبة القائمة ما بين شموس مجرتكم، التي لا يقل عددها عن الثلاثين مليونا، وكل هذه الشموس مع سياراتها مرتبطة بعضها ببعض في نظام واحد كمجموع دواليب آلة واحدة، فتظهر لعين الحكيم الناظر إليها عن بعد كحفنة من اللآلئ الذهبية، نثرتها النفحة الإلهية في الفضاء، كما نثر الريح الرمال في بقع الصحاري.
إن فلاة يكاد ألا يحدها قرار تمتد إلى كل جهة حول المجرة التي أتينا على ذكرها؛ لأن تجمعات المادة الأصلية - أي المجرات - منثورة في الفضاء كجزر عزيزة الوجود في بحر لا حد لسعته، فالمسافة التي تفصل ما بين كل مجرة وأخرى تفوق فئوقا لا يقدر مسافة قطر المجرة ذاتها، فمعلوم أن قياس مجرتنا يقدر بمئات ألف ألف ألف ألف ألف فرسخ، أما قياس بعدها عن باقي المجرات فلا يمكن لعقل أن يدركه، بل المخيلة وحدها تستطيع أن تقطع تلك الفيافي السماوية الخالية من مظاهر الحياة.
وتتجلى ما وراء هذه الفلوات عوالم أخرى تتبختر في بحر الأثير، وتظهر الحياة فيها تحت مجالي غريبة يستحيل عليكم تصورها، فالمنتقل من مجرتكم إلى تلك المجرات يعاين ضروبا وقوى طبيعية لم تكن قط لتخطر بباله، هنالك يدرك قدرة الخالق، ويسبح عجائب أعماله.
قال: رأينا أن ناموسا أصليا واحدا يتولى تكوين العوالم وخلود الكون، وأن هذا الناموس العام يظهر لحواسنا تحت ضروب مختلفة ندعوها قوى طبيعية، وبفعلها تتجمع المادة الأصلية، وتنجز تقلباتها الدورية، أي تكون في البدء مركزا سيالا للحركة ثم تتفرغ فيها العوالم، وتصبح بعدها جرما كثيفا يدور حوله ما تولد منه من الأجرام.
قال: والآن أريد أن أبين أن هذه النواميس ذاتها - التي تولت نشأة العوالم - ستتولى أيضا أمر دثارها؛ لأن منجل الموت لا يحصد ذرات النسمة فقط، بل المادة الجمادية أيضا بانحلال تراكيبها، فلما يقضي العالم سني حياته، وتخمد منه نار الوجود، وتفقد عناصره قواها الأصلية، وتزول منه الحوادث الطبيعية بزوال القوى، هل تظنون أن سيلبث دائرا في الفضاء كجرم ميت لا حياة فيه، ويبقى مكتوبا في سفر الحياة بعد أن أصبح حرفا ميتا لا معنى له؟ كلا، إن النواميس ذاتها التي انتشلته من ظلمة الخواء، وجملته بمظاهر الحياة، ودرجته من أجيال الصبوة إلى الهرم، ستتولى أمر دثاره، وإرجاع عناصره الجوهرية إلى معمل الطبيعة العام؛ ليتكون منها فيما بعد عوالم جديدة، إلى ما لا انتهاء له.
अज्ञात पृष्ठ