قال محمد: «وهذا ما نراه نحن جميعا، فما العمل؟»
قال: «ها أنا ذا ذاهب إليه الساعة.» قال ذلك ونهض وقد أهمه الأمر كثيرا لغيرته على الإسلام ولقرابته من الرسول ومن علي.
وكان ابن عباس يناهز الأربعين من العمر، جميل الوجه، أبيض اللون مشربا صفرة، جسيما فصيح اللسان. وكان أعلم الناس بالحديث والشعر وكلام العرب، سديد الرأي، عالما بتفسير القرآن وبكل علم من علوم تلك الأيام، لم يدرك أحد من أهل زمانه ما أدركه. فلما سمع كلام محمد أسرع إلى عمامته وجبته وهرع إلى منزل الإمام علي ومحمد يتبعه.
ولما وصلا إلى الدار رأيا المغيرة بن شعبة واقفا بباب حجرة الإمام علي يشد نعاله فأدركا أنه كان عنده، فقال عبد الله لمحمد: «أتراه جاءه ثانية أم لعلها الزيارة التي ذكرت؟»
قال: «هذه غيرها، ولا أدري ما جاء به.»
وبينما هما في ذلك مر بهما الحسن، فلما رأى عبد الله بغت ووقف وسلم عليه ودعاه إلى حجرته وهو يريد أن يذكر له أمر الخطبة، فرآه في شاغل آخر وقد أسرع إلى حجرة علي، فدخل معه ومحمد في أثرهما. •••
فلما أقبل عبد الله على الإمام حياه بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وكانت أول مرة رآه فيها بعد خلافته. وكان علي جاثيا وبين يديه مصحف فلما سمع تحية عبد الله أحسن ردها ورحب به وقال: «وعليك السلام يا ابن عم الرسول.» قال ذلك والانقباض ظاهر على وجهه كأنه كان في جدال عنيف. فمشى عبد الله حتى جلس بجانبه، وجلس الحسن ومحمد في بعض جوانب الحجرة.
فلما استقر بهم المقام قال ابن عباس: «رأيت المغيرة خارجا من عندك وعهدي به ذو دهاء وسداد رأي، فهل أحدث حدثا؟»
قال علي: «والله لقد أخلف ظني فقد أشار علي منذ أيام بأن أقر معاوية وسائر عمال عثمان على أعمالهم، وأنهم هم الذين بعثوها فتنة أودت بعثمان وأخذوا يؤلبون الناس علينا. فخالفته فيما ذهب إليه وأبيت إلا عزلهم، فتقدم إلي بأن أبقي معاوية على الشام فأقسمت لا أستعملنه يومين، فخرج وهو يرى أن ستبدي الأيام صحة ما رآه. ثم عاد اليوم فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان.» فحمدت له رجوعه إلى الصواب.»
قال ابن عباس: «يا ابن عم، أترى المغيرة قد صدقك اليوم؟ أما أنا فما أظنه والله إلا قد نصحك في الأولى وخدعك في الثانية. إن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون أخذ هذا الأمر بغير شورى عثمان، ويؤلبون عليك فتنتقض عليك الشام وأهل العراق. وإني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، ولهذا أشير بأن تثبت معاوية فإذا بايع فعلي أن أقلعه من منزله.» وكان ابن عباس يتكلم وعلي مطرق مقطب الوجه، وقد أقلقه الأمر كثيرا، وأما الحسن ومحمد فكانا يسمعان كلام ابن عباس ويودان لو يقتنع الإمام فيقر معاوية تجنبا للحرب. فلما فرغ ابن عباس من كلامه لبثا ينتظران ما يقوله علي، فإذا هو لا يزال مطرقا عابسا، والسكوت يسود الحجرة ولا ينبس أحد ببنت شفة. ثم رفع علي رأسه ونظر إلى ابن عباس ويده على سيفه وقال: «والله لا أعطيه إلا السيف !» ثم رد يده إلى لحيته وقال:
अज्ञात पृष्ठ